رام الله ـ وفا
إلى جانب روعة جمال جسرها المعلق وكاتدرائياتها القوطية المهيبة والمناظر الطبيعية الخلابة وتصنيفها كأفضل مدينة للعيش في بريطانيا، تتميز بريستول أيضا بكونها المدينة الإنجليزية التي تحتضن في قلبها السفارة الفلسطينية ومتحف النكبة الأول والفريد من نوعه في البلاد.
بحروف عربية تقرأ كلمتي 'سفارة فلسطين' وتمثال موشح بثوب تقليدي أزرق مزين بتطريز فلسطيني مميز، تستقبل السفارة ضيوفها الذين إما يحرصون على زيارتها عند زيارة المدينة من كافة أنحاء المملكة المتحدة أو يوقفهم الفضول لدخول هذا المبنى الذي يأوي حضارة وتاريخا مثيرين للجدل من ما وراء البحار.
من دون دفع أي رسوم للدخول، ما على الزائر إلا العبور من خلال نموذج نقطة تفتيش إسرائيلية والجلوس في زنزانة صغيرة، قبل أن يشاهد بقية المعرض الذي يروي أكثر من 66 عاما من الحياة والنضال والظلم والاحتلال.
قالت الناشطة الإيطالية ريتا كانجالوسي، التي أسست بالتعاون مع زميلها البريطاني إدوارد كلارك السفارة الفلسطينية ومتحف النكبة: 'أتأكد من أن يمر جميع زوار المتحف عبر نقطة التفتيش والدخول إلى الزنزانة، حتى يعوا جيدا ما حدث ويحدث في فلسطين'.
ووصفت ريتا واقع الفلسطينيين ومعاناتهم اليومية مع نقاط التفتيش الإسرائيلية خلال حديثها مع أحد زوار المتحف: 'يعامل الجنود الإسرائيليون الفلسطينيين كأنهم حيوانات'. وأضافت باستهجان: 'نقاط التفتيش هذه تشبه ما يستخدمه المزارعون لتنظيم دخول وخروج أبقارهم!'
وتغطي جدران الزنزانة وقضبان نقطة التفتيش عشرات النشرات والصور والمعلومات في محاولة لزيادة وعي الزوار حول الواقع الفلسطيني وإعطائهم فرصة لتجربة وفهم صعوبة عبور نقاط التفتيش الإسرائيلية بشكل يومي والأسر في السجون الإسرائيلية.
وتعد السفارة الفلسطينية ومتحف النكبة، الموجودة في مبنى تاريخي مكون من خمسة طوابق، فريدة من نوعها لكونها أول تمثيل فلسطيني خارج لندن، والمتحف الوحيد الدائم المخصص للنكبة الفلسطينية.
وقالت ريتا إنها توصلت وإدوارد إلى فكرة المتحف بعد حصول فلسطين على صفة دولة غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قررا حينها تمثيل الدولة الفلسطينية في 'بريستول' من خلال جمع كافة المعلومات المتعلقة بدولة فلسطين والنكبة وغيرها من الأحداث التاريخية المهمة ووضعها في مكان واحد حتى يطلع عليها الناس دون حاجة للبحث.
تصميمهما وإخلاصهما لهذا المشروع مثير للإعجاب بشكل خاص لأنهمل ليسا فلسطينيين وليس لديهما أية أصول فلسطينية، حيث التقيا خلال احتجاج للتضامن مع أسطول الحرية 'مافي مرمرة'، ولاحقا أسسا السفارة الفلسطينية ومتحف النكبة التي تقف كشاهد على وجود الفلسطينيين والتأكيد على شرعية قضيتهم.
وقال ادوارد أن تفانيه نابع من رغبته في البحث عن الحقيقة، وفضح الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، مثل 'عملية الرصاص المصبوب'، في حين عززت صور الشباب الفلسطيني الذي يقف متحديا أمام الدبابات الإسرائيلية والرجال الفلسطينيين المرابطين ومكبلي الأيدي أمام جنود الاحتلال المدججين بالأسلحة، شعور ريتا بالالتزام تجاه الفلسطينيين.
وساهمت معلمة ريتا بإشعال اهتمامها في القضية الفلسطينية، بعد أن تحدثت عمّا يسمى بالحق التاريخي لإسرائيل في فلسطين. وقالت: 'لا يمكنك العودة إلى حدود العالم التي وجدت قبل آلاف السنين لأن العالم سيكون في فوضى. لا يحق لإسرائيل المطالبة بفلسطين'.
وتدور حياة كل من ريتا وإدوارد حول المتحف، حيث قالا: 'لقد تركنا كل شيء، لم يعد لدينا حياة غير المتحف. نحن نعيش حياتنا كفلسطينيين'. ففي حين يعتقد كلاهما أنه من الصعب إصلاح الوضع الحالي، إلا أن من واجبهما كشف الحقيقة والتأكيد للعالم أنهم لا يعيشون في الظلام.
واستثمر كلاهما الكثير في هذا المشروع، ونظرا لعدم وجود دعم مادي كافي فإن المتحف يتقدم بوتيرة بطيئة حيث لم يستطيعا تنفيذ العديد من الأفكار بسبب الشح المالي، كما أن المتحف مفتوح للزوار ثلاثة أيام في الأسبوع فقط لأنه لا يتحمل تشغيل موظف بدوام كامل.
وحاول كل من ريتا وإدوارد الحصول على صفة جمعية خيرية ليجمعا التمويل، ولكن تم رفض طلبهما باعتبار المشروع سياسيا بشكل كبير، الأمر الذي اعتبرته ريتا مرفوضا بشكل كلي، نظرا لأن 'الصندوق القومي اليهودي' يحمل صفة جمعية خيرية رغم دوره الكبير في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين.
ولا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به قبل أن يعمل المتحف بكامل طاقته، ففي الوقت الراهن يقوم ادوارد وريتا بأعمال تجديد في الطوابق المتبقية والتي من المخطط أن تضم غرفة بث ومنصة مسرح، حيث سيتم إعادة تمثيل الأحداث التاريخية الكبرى في تاريخ فلسطين للزوار لإيصال الفكرة بطريقة مبسطة وجديدة.
وأكدا أن أي شكل من المساعدة سيحدث فرقا، سواء في تشغيل المتحف أو الإعلان عن مشاريعهما وإنجازاتهما أو إدارة الموقع وصفحات وسائل التواصل الاجتماعية.
ويتم تحديث المتحف بالعديد من الصور والمعلومات التي تغطي الحياة في فلسطين من عام 1820م حتى يومنا هذا، كما يضم مجموعة من التحف والرسومات التاريخية، بالإضافة إلى زاوية لبيع المنتجات المستوردة من فلسطين، حيث يتم بيع زيت الزيتون والملبوسات المطرزة والكتب والمواد الغذائية والصابون.
وينظم المتحف عدة فعاليات مثل عروض الأفلام وأمسيات موسيقية وفنية، ويحيي ذكرى أحداث تاريخية فلسطينية، وذكرى المجازر الإسرائيلية لإبقائها حية في أذهان الناس.
كما يعمل كل من ريتا وإدوارد حاليا على تنفيذ مشروع لجمع الدراجات وقطع الدراجات لإرسالها إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تعد مشكلة نقص الوقود إحدى أبرز المصاعب التي تواجه عددا كبيرا من الفلسطينيين.
وبخصوص التأثير الذي يتركه المتحف على زواره، قالت ريتا إنه ليس بالجذري، ولكنه مهم حيث أن العديد من الطلبة الذين يأتون للاستماع والاطّلاع على القصة الفلسطينية عادة ما يشعرون بالصدمة والتنور في آن واحد، فعلى سبيل المثال زار عشرات الأشخاص بغض النظر عن خلفياتهم، المتحف فقط من أجل إشعال شمعة لإحياء ذكرى مذبحة دير ياسين.
وقالت: 'هذا المتحف، الذي يستقبل حوالي 200 إلى 250 زائر في الأسبوع، هو أكبر مجموعة من المعلومات عن فلسطين في بريستول، حيث يجمع مقدارا قيما من المعرفة الملموسة في مكان واحد'.
ورغم كونه متحفا متواضعا وبسيطا للغاية ويحتاج إلى دعم مستمر وعناية مكثفة من كافة الجهات الفلسطينية كانت أو الدولية، إلا أنه بالفعل نتاج جهد جماعي من قبل أشخاص يجمعهم الإيمان المشترك بقضية واحدة.
واختتم إدوارد حديثه قائلا: يقول العديدين 'لا يمكنك العيش في الماضي'، ولكن يتوجب علينا العيش في الماضي لأنه يحدد المستقبل. النكبة هي اليوم، وليست بالأمس'.