الرباط - المغرب اليوم
أكّد إدريس الكراوي، أستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط، أن الدول التي استطاعت أن تدبّر بنجاعة جائحة "كورونا" تتميز بخصائص أربع؛ من بينها وجود دولة وطنية قوية يقودها زعيم يتوفر على شرعية شعبية، إضافة إلى وعي مدني مكّن من التفاعل الإيجابي مع الاستراتيجية الوطنية لتدبير الأزمة.وأضاف الكراوي، في مقال بعنوان "جائحة كورونا خلاصات وعِبر"، أن معاينة طبيعة وطرق تدبير الأزمة من طرف الدول تقود إلى استخلاص عِبر يمكن أن تنير الحكامة المستقبلية وطنياً ودولياً للقضايا التنموية والمجتمعية وعلاقات الفرد بالمجتمع.
ويرى الأستاذ الجامعي أن البحث الأحادي الأناني لمخرج قُطري للأزمة في العالم يسائل مجلس الأمن والعديد من المؤسسات الدولية والإقليمية الأممية، مؤكداً في هذا الصدد على الحاجة إلى حكامة دولية فعلية مسؤولة تقوم بعمليات التنسيق الدائم لكل القضايا موضوع أجندات الأمم المتحدة.
خلاصات وعِبر كورونا
تُوحي التأملات الأولية بشأن جائحة كورونا بأننا سنعيش، مما لا شك فيه على المديين المتوسط والبعيد، من جهة، نهاية عالم وبداية عالم آخر ليس بالضرورة جديد، ومن جهة أخرى، نهاية نماذج للتنمية، وبزوغ نماذج بديلة في تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والمجتمعية، أكثر التصاقاً بالحاجيات والخصوصيات الوطنية والمحلية للمجتمعات.
وضمن هذا الأفق، هناك خلاصة عامة، وثلاث عِبر للتاريخ تبدو أساسية في هذه المرحلة من تأملنا لفهم ما جرى، وما يجري، وما يمكن أن نتوقعه بالنسبة للمستقبل.
1ـ الخلاصة العامة تتعلق بطبيعة تدبير كل بلد على حدة لهذه الأزمة؛ ذلك أنه، انطلاقاً من معاينة التجارب المقارنة على الصعيد الدولي، يبدو جلياً أن الدول التي استطاعت أن تُدبّر وتعالج بنجاعة هذه الجائحة هي الدول التي تتميز بأربع خصائص:
ـ تواجد دولة وطنية قوية يقودها زعيم يتوفر على شرعية شعبية، مكّنت من استثمار الذكاء الجماعي لكل مكوناتها، ضامنة بهذا الانخراط التلقائي، والطوعي والمسؤول والمضبوط والمنتظم لقواعد الحجر الصحي، وكذا للإنتاج المحلي للمستلزمات الطبية والاستشفائية الضرورية لمواجهة هذه الجائحة؛
ـ تواجد وعي مدني تولّد عنه سلوك مواطني لدى جميع مكونات المجتمع، مكّن من التفاعل الإيجابي مع الإستراتيجية الوطنية لتدبير الأزمة، موفقا بهذا تلقائياً بين المسؤولية والحرية؛
ـ توافر دينامية اجتماعية تضامنية ساهمت في تطوير تكامل وظيفي بين الدولة، والجماعات الترابية، والمقاولات، وفعاليات المجتمع المدني، أحيا قيم التضامن، والتكافل، والتآزر الاجتماعي مركزياً وترابياً؛
ـ ثم توافر منظومة وطنية للبحث العلمي، والابتكار في المجال الطبي والاستشفائي، أذكت اليقظة والاستباقية، وساعدت على الاستثمار الأمثل لكل الإمكانيات التي يتيحها الاقتصاد الرقمي.
2ـ بالموازاة مع هذه الخُلاصة العامة، المستقاة من معاينة طبيعة وطرق تدبير الأزمة من طرف الدول، هناك ثلاث عِبر يمكن أن تنير الحكامة المستقبلية وطنياً ودولياً للقضايا التنموية والمجتمعية ولعلاقات الفرد بالمجتمع.
ـ العبرة الأولى تتعلق بما يمكن أن تؤول إليه مستقبلاً النماذج الوطنية للتنمية؛ ذلك أن كل المؤشرات تُوحي بأن نماذج الغد للتنمية مدعوة أولاً إلى أن تُغير جذرياً أنماط الإنتاج والاستهلاك والتبادل وتوزيع الثروات، ثم ثانياً إعادة ترتيب أولويات هذه النماذج في إطار سياسات عمومية قائمة على تقوية المناعة الاقتصادية الداخلية من خلال تطوير قدراتها المؤسسية والعلمية والتدبيرية لتلبية الحاجيات الضرورية لمواطنيها ومقاولاتها ومجالاتها الترابية، وذلك اعتماداً على النبوغ الوطني والذكاء الجماعي لكافة فعالياتها وقواها الحية.
ـ العبرة الثانية هي التي أظهرتها الفوضى العالمية الكمينة في انعدام حكامة دولية مسؤولة، تضامنية، ومتقاسمة، مفرزة لإستراتيجية موحدة لمجابهة هذه الجائحة، وللكوارث الطبيعية وغير الطبيعية بصفة عامة، وما لهذا الواقع من آثار مستقبلية أكيدة على الأمن الإنساني برمته.
وفي هذا الإطار لا بد من الاشارة إلى أن زعماء ما يُسمّى بالدول العظمى أخلفوا إبان هذه الجائحة موعدهم مع التاريخ، مُنغمسين فرادى في البحث الأحادي الأناني لمخرج قُطري للأزمة، تاركين قارات ومجموعات بشرية بأكملها في أوضاع اجتماعية وصحية ومادية لا إنسانية.
وبقولي هذا أريد أن نُسائل جميعاً الضمائر الحية داخل المنظومة الدولية لوضع حّد لهذه الفوضى المنظمة التي يعرفها العالم، والتي يجب أن تفضي إلى البحث الجدي والعاجل إلى إصلاح جذري لمجلس الأمن وللعديد من المؤسسات الدولية والإقليمية الأممية.
إن العالم أصبح اليوم أكثر من أي وقت مضى في حاجة ملحة إلى حكامة دولية فعلية مسؤولة تقوم بعمليات التنسيق الدائم لكل القضايا موضوع أجندات الأمم المتحدة، ضماناً لالتقائيتها، ولفعليتها، ولفعالياتها، وذلك بغرض تحقيق الأمن والسلم ورفاهية مجتمعاتنا.
وإن هذا التوجه المستقبلي أصبح اليوم لا مندوحة عنه؛ لأن العالم، حسب العديد من الدراسات الاستشرافية، سيعرف تطور أجيال جديدة من الحروب والكوارث والأوبئة ستشكل تهديداً للأمن الانساني إذا لم يتم التصدي الدولي الجماعي المنسق لها.
ـ العبرة الثالثة والأخيرة تكمن في التغير المحتمل لكن الأكيد في علاقة الإنسان بإشكالية الوجود. فما من شك في أن من المخلفات الجوهرية للمرحلة التي تجتازها البشرية اليوم تكمن في كونها تسائل الوجود الإنساني في عمقه؛ ذلك أن العديد من الأفراد، وليس بالضرورة من صنف الطبقة المثقفة منهم، بدأوا يسائلون ويتساءلون حول حدود الإنسان في مواجهة الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية والأوبئة والأجيال الجديدة من الحروب، ومن خلال هذا مساءلة مآل المصير المشترك للبشرية.
وجدير بالذكر هنا أن ما هو نوعي في عملية والتساؤل هاته هو أننا بدأنا نعيش مرحلة انتقالية مفصلية تنحو نحو إعادة التفكير في العلاقة من جهة بين العقل والعلم والفلسفة والعقيدة، ومن جهة أخرى بين القانون والدين والسياسة، استطاعت غريزة البقاء مساءلتها.
وهذا ما يجعلنا نشهد إمكانية المرور من فترة حَجر عقائدي غيبي إلى صحوة علمية ومنارة فلسفية، يتوجب استثمارها في أفق التأسيس لآفاق تنويرية تحرّر الفكر وتفجّر المعرفة. وإنها لنهضة حضارية، ولثورة ثقافية إن استطاعت الأمم تطويرها، لمن شأنها أن تشكل رافعة مستقبلية لمواكبة ثقافية، وفكرية، ومعرفية للنماذج التنموية الجديدة لعالم الغد.
قد يهمك ايضا
"لغة كورونا" آخر ما توصل إليه العلم والعلماء في تعاملهم مع الوباء
نقابة تعليمية تطالب "التعليم" المغربية بالإعلان عن موعد العطلة الربيعية