بغداد – نجلاء الطائي
أعلنت وسائل الاعلام الإيرانية وفاة المخرج السينمائي الإيراني، الحائز على عدة جوائز دولية، عباس كيارستمي، في باريس، عن عمر ناهز 76 عامًا. ويعد "كيارستمي" واحدًا من أهم وأبرز المخرجين في السينما العالمية المعاصرة. ويؤكد العديد من النقاد نبوغ "كيارستمي" كسينمائي متميز، استطاع بفضل إبداعاته ، مع إبداعات سينمائيين إيرانيين لا يقلون أهمية عنه، أن يضع الفيلم الإيراني على خارطة السينما العالمية، وأن يجعل من حضوره حدثًا ثقافيًا مهمًا.
ساهمت أفلامه الهامة والمتميزة في خلق نوع جديد من السينما، سينما لا تعتمد على حبكة أو أحداث دراماتيكية أو مؤثرات خاصة وحيل بصرية، أو ميزانية ضخمة أو نجوم محترفين، إنها سينما "متقشفة"، لكنها عميقة في الرؤية، وتعتمد على إظهار التناقضات والمفارقات الصارخة والكامنة، أو المموهة ، وتدعو إلى التأمل والتفكير، بعيدًا عن الحالات الوجدانية الميلودرامية.
وتوفي "كيارستمي" إثر نوبة قلبية، في العاصمة الفرنسية باريس، بعد مغادرته إيران عقب اشتداد مرضه. وكان يعاني من مرض في الجهاز الهضمي، حيث اضطر لمغادرة البلاد، لمواصلة العلاج في باريس.
ولد عباس كيارستمي في طهران، في 22 يونيو / حزيران عام 1940، لعائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، وتضم عددًا كبيرًا من الأفراد، وتسكن المنطقة الشمالية من جيلان. وكان والده رسام ومصمم ديكورات. وورث "كيارستمي" عنه الولع بالأشكال الفنية البصرية، مع أنه اعترف، أكثر من مرّة، بأنه في طفولته استخدم الرسم كأداة لمقاومة وحدته، حيث كان طفلاً منطويًا على ذاته، يعاني من مشكلات تتعلق بصعوبة الاتصال مع الآخرين، ويقال إنه – طوال فترة تلقيه التعليم – لم يتحدث قط مع أيّ من زملاء الدراسة.
وكان منذ صغره مهتمًا بالفن التشكيلي، ومارس الرسم وفاز في مسابقة في الرسم وهو في الـ 18من عمره، قبل فترة قصيرة من تركه لبيت العائلة، لدراسة الفن في قسم الفنون التشكيلية في جامعة طهران، حيث تخصص في الرسم وتصميم الغرافيك. ولكي يعيل نفسه، عمل كشرطي مرور. ونظرًا لاضطراره إلى الجمع بين دراسته وعمله في إدارة المرور، احتاج إلى وقت طويل حتى يتخرج. وفي ما بعد، حين سئل إن كان قد تعلّم شيئًا من الجامعة، رد قائلاً: "نعم، تعلمت أنني حتمًا لم أخلق لأكون رسامًا".
واهتم خلال سنواته في الجامعة بتصميم الغرافيك، الذي وجّه خطواته المهنية الأولى كفنان. وبعد الجامعة، في فترة الستينيات، عمل في مجال الإعلان كرسام، ليصمم أغلفة الكتب والملصقات (البوسترات) الإعلانية والدعائية، مفتونًا، على حد تعبيره، بهذا "المظهر التقشفي" لتصميم الغرافيك، الفن الذي يوصّل رسالته إلى الجمهور العام بالحد الأدنى من الوسائل، والحد الأقصى من الكوابح.
وفي العام 1960، حصل على وظيفة في وكالة بارزة للإعلان عن الأفلام. وخلال تلك الفترة، وحتى العام 1966، كرّس جهوده في المجال الإعلاني التلفزيوني، وصور، حسب تقديره، من 100 إلى 150 إعلانًا للتلفزيون الإيراني. ومنذ العام 1967، بدأ في تصميم وتصوير مقدمات الأفلام والعناوين أو أسماء العاملين في الفيلم، إضافة إلى تصميم الرسوم لكتب الأطفال.
في 1969 تزوج "كيارستمي" برفين أمير غولي، وهي مصممة أعمال فنية، وكان ثمرة هذا الزواج، الذي انتهى بالانفصال في 1982، ولدين، هما أحمد (مواليد 1971)، ويعمل في الولايات المتحدة، في مجال الكومبيوتر، وبهمن (مواليد 1978)، الذي أخرج وصور في 1993، وهو في الخامسة عشرة، فيلمًا وثائقياً بعنوان "رحلة إلى أرض المسافر".
ومن أبرز افلام هذا المخرج الايراني، الذي يمنح عمله السينمائي بعدًا شاعريًا "طعم الكرز"، الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 1997، ويحكي قصة رجل يبحث عن شخص ليقوم بدفنه بعد انتحاره. ويبحث الفيلم في التوجهات الاجتماعية والدينية في إيران. ولكنه أخرج آخر فيلمين له خارج إيران.
بدأ "كيارستمي" نشاطاته السينمائية عام 1970، وشارك في إنتاج أكثر من 40 فيلمًا سينمائيًا ووثائقيصا وقصيرًا، بين مخرج أو كاتب أو معد، وتعتبر ثلاثية "الزلزال" من أهم أعماله وكذلك "سيحملنا الريح"، و"تحت اشجار الزيتون".
وبعد انتصار الثورة الاسلامية، أصبح أحد مؤسسي السينما، وحتي اليوم يتبع الكثير من السينمائيين نهجه، الذي تألقوا من خلاله. وحصل "كيارستمي" علي جوائز سينمائية كبيرة، بخلاف السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي في فرنسا، حيث حل، في عام 2003، في المركز السادس، حسب تصنيف صحيفة "الغارديان" الإنكليزية لأفضل عشرة مخرجين معاصرين. وفي عام 1993، حصل على جائزة "فرانسوا تروفو" في مهرجان "جيفوني" في إيطاليا، عن مجمل أعماله، وفي العام نفسه حصل على جائزة مدينة "ريميني" في إيطاليا، عن مجمل أعماله أيضًا، في 1995، حصل على جائزة "بيير باولو بازوليني"، من مؤسسة "بازوليني" في روما، وفي عام 1996، حصل على جائزة مخرج العام من دليل "فاريتي" للأفلام العالمية، كما كرّمته وزارة الثقافة الفرنسية.
وحصل "كيارستمي" في عام 1997 على جائزة خاصة من مهرجان "جيفوني" في إيطاليا، كما حصل على جائزة "فيتوريو دي سيكا"، من مؤسسة "دي سيكا"، عن مجمل أعماله. وحصل على على الجائزة الخاصة من "اليونسكو" في فرنسا. وفي عام 1999، حصل على عدد من الجوائز الخاصة عن مجمل أعماله، من مهرجان اسطنبول، وبانوراما السينما الأوروبية في اليونان، ومهرجان أفلام الشرق الأوسط في فرنسا، ومهرجان "ثيسالونيكي" في اليونان.
وفي استفتاء أجرته مجلة "Film Comment" الأميركية، تم اختياره كأفضل مخرج في التسعينيات. وفي استفتاء آخر أجرته "سينماتيك أونتاريو" في كندا عام 2000، تم اختياره كأكثر المخرجين بروزًا في الفترة نفسها (التسعينيات). وفي العام 2000، حصل على جائزة خاصة في مهرجان "فجر" في طهران، عن مجمل أعماله، وجائزة "أكيرا كوروساوا" من مهرجان "سان فرانسيسكو"، وفاجأ الجميع بتحويله الجائزة إلى الممثل المخضرم بهروز فوسوغي، المقيم في أميركا، تقديرًا لإسهاماته في السينما الإيرانية.
وفي العام نفسه حصل "كيارستمي" على جائزة خاصة من وزارة الثقافة اللبنانية، وجائزة خاصة في مهرجان "بيروت" عن مجمل أعماله. كما ترأس لجنة تحكيم مهرجان "مونتريال" السينمائي الدولي الرابع والعشرين، وفي 2003، حصل على جائزة "كونراد وولف". واحتفى به مهرجان "ثيسالونيكي" في اليونان، في العام 2004، وعرض له 32 فيلمًا، بين الدرامي والوثائقي، ضمن فعالية خاصة، إضافة إلى تنظيم ورشة خاصة تحدث فيها عن مظاهر متعددة من عمله السينمائي. وفي 2005، نظم معهد الفيلم البريطاني مهرجانًا لأعماله، إضافة إلى إدارته لإحدى الورش, بعنوان "عباس كيارستمي - رؤى الفنان". كما منحه مهرجان "لوكارنو" جائزة خاصة. وفي العام 2006، اختير في استفتاء للنقاد، أجرته صحيفة "الغارديان"، كأفضل مخرج غير أميريكي، فضلاً عن حصوله على جائزة "هنري لانجلوا".
وفي عام 2007، نظم متحف الفن الحديث في نيويورك، بالاشتراك مع مركز الفن المعاصر، مهرجانًا لأعماله بعنوان "عباس كيارستمي - صانع الصورة"، حيث تم عرض عدد من أفلامه، إلى جانب المشاركة في ورشة تدريبية مع 30 طالبًا لمدة 12 يومًا، وإلقاء محاضرات في عدد من الجامعات، وإقامة معرض خاص بالصور الفوتوغرافية. وفي العام نفسه، منحه مهرجان "كولكاتا" الدولي جائزة خاصة، وفي 2008، منحه مهرجان "فينيسيا" أيضًا جائزة خاصة.
وكان "كيارستمي" يتمتع بنفوذ كبير في عالم السينما، إذ قال عنه المخرج الفرنسي السويسري الكبير جان لوك غودار: "السينما تبدأ عند دي دبليو غريفيث وتنتهي عند عباس كيارستمي."
و"كيارستمي" هو الإيراني الوحيد الفائز بجائزة السعفة الذهبية، التي رشح لها أيضًا فيلمه "عشرة"، الذي صور بواسطة آلتي تصوير رقميتين مثبتتين في سيارة، تابع بواسطتهما المخرج امرأة وهي تقود سيارتها في شوارع طهران. واستكشف من خلال الفيلم القضايا الاجتماعية المحيطة بدور المرأة في إيران.
وقال أصغر فرهادي، المخرج وصديق الراحل: "إنه لم يكن مجرد مخرج، وإنما كان صوفيًا معاصرًا، سواء في إبداعه أو في حياته الشخصية"، مضيفًا أن نجاح أفلام "كيارستمي" ألهم أجيالاً جديدة من المخرجين الإيرانيين. مضيفًا أنه مهد السبيل أمام الآخرين، وأثر في كثيرين، وأن وفاته خسارة لا لعالم السينما فحسب، بل العالم كله.
وجاء في تغريدة نشرتها مجلة "مسرح الأفلام"، وهي مجلة متخصصة في فن السينما تصدر في نيويورك: "قد يكون العالم خسر أعظم مخرجيه". ومن جانبه، نشر المعهد البريطاني للسينما تغريدة عبر فيها عن "حزنه" لخبر وفاة "كيارستمي"، الذي وصفه الناقد السينمائي لدى صحيفة "التلغراف" اللندنية، روبي كولين، بأنه كان "صانع معجزات بزي ساحر".
وقال المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي: "يمثل عباس كيارستمي قمة الحس الفني في السينما." وأضاف أن "كيارستمي" كان لديه الإحساس الحاد بالتراكيب البصرية، والصوتية، ولديه أسلوبه الخاص الذي يتميّز به، والذي نجده حاضرًا في أفلامه، حيث تتكرر العناصر في أفلامه، كما هو الحال عند أغلب كبار المخرجين في السينما العالمية مثل بيرغمان، أنتونيوني، تاركوفسكي، فلليني، بريسون، أنغيلوبولوس، وآخرين، مبينًا أنه نفذ أفلامًا تتحدى توقعات المتفرج، الذي اعتاد على تقاليد معينة في صنع الأفلام، وفي الوقت نفسه يقدم أفكارًا فلسفية عن الوضع الإنساني، على نحو بسيط ظاهريًا، ودونما تعقيد. إنه يوظف البساطة المضلّلة لسبر قضايا مركّبة وشائكة، مؤكدًا أهمية المادة أكثر من التقنية.
وأشاد أكيرا كوروساوا، عملاق السينما اليابانية، بأفلام "كيارستمي"، لبساطتها وعمقها وروعتها، واعتبره واحدًا من كبار المخرجين في السينما العالمية المعاصرة. وقال عنه: "عندما رحل ساتياجيت راي شعرت بكآبة وإحباط تام، لكن بعد مشاهدتي لأفلام كيارستمي، اقتنعت بأن الله قد اختار الشخص المناسب ليحل محل راي". وقال كوينتن ترانتينو، الكاتب والمخرج الأميركي: "اعتبره من المخرجين العمالقة في العالم".
وقال جان كلود كارييه، كاتب السيناريو الفرنسي الشهير: "سينما كيارستمي مطرّزة بالبراءة. إنها مباشرة وبسيطة، وهي لا ترفع أي شعار، فلا مجال فيها للاستطرادات ولا لرفّات الجفن، الفيلم يعطي الانطباع بأنه يخلق نفسه تلقائيًا دون أي أسلوب مقرّر سلفًا".
وتحدث ميشيل بيكولي، الممثل الفرنسي، عنه قائلاً: "كيارستمي أنجز الأفلام بفضل مخترعي السينما، لكن هؤلاء المخترعين أنفسهم سيكونون معجبين باختراعهم عندما يشاهدون حكاية يرويها كيارستمي". وقال عنه مايكل هانيكه: "أنه من بين المخرجين المعاصرين القريبين إلى نفسي، وستظل أعماله عالقة في الذهن، فكيارستمي لم يتجاوزه أو يتفوّق عليه أحد بعد.
وأخيرًا قالت عنه جايتي جينسن: "هو باستمرار يُظهر لنا كيف أن المادة البسيطة تكشف طبقات لا نهائية من العمق، وكيف أن التغيّرات الدقيقة تؤثر في القصة الكل".