الرباط - المغرب اليوم
اعتبر الشاعر السوري نوري الجراح، عندما حل ضيفا على دار الشعر في تطوان، نفسه ابن الثقافة العربية. لكنه قال إنه لم يستوعب معنى انتمائه إلى المشرق إلا عندما وصلت المغرب. إذ أكد في هذا السياق، قائلا إن “المغرب أعاد لي صورتي الأولى بأجمل مما كنت أعرفها”، موضحا أكثر أن “زوجتي مغربية وابنتي مغربية وأخوالها مغاربة.” كما أشار إلى أن “المغرب أعطاني هذه المسافة لأتعرف على طبيعتي وهويتي كمشرقي، لأن المغرب يرى المشرق جميلا جدا، ومهبط الأنوار ومصدر المعرفة، أي مصدر تجارب فكرية اغتنى منها المغرب، ثم عاد فأغناها طبعا”. فضلا عن ذلك، ذكر بأن “المغاربة يعرفون عنا نحن المشارقة أكثر بما لا يقاس بما نعرفه عنهم”. وكان الشاعر السوري قد تحدث باستفاضة عن سيرته الدمشقية وسيرته الأولى في العاصمة السورية، مرورا بمختلف التجارب والمنافي الاضطرارية والاختيارية والشعرية التي مر منها عبر مساره الشعري والثقافي الطويل. إذ قال الجراح، خلال حضوره في المسرح الكبير للمركز الثقافي بتطوان، إنه غادر دمشق قبل ثلاثة عقود “بعيدا عن سريري الأول ومكتبتي الأولى وشارعي الأول والغيوم الأولى التي مرت في سماء مخيلتي اليافعة”.
وهنا، يتساءل الشاعر: “كيف للشعر أن يتولد بعيدا عن الطفولي؟”، معتبرا أن “الشعر هو وليد الحواس الأولى، وأنه يتشكل لدى الشاعر منذ يفاعته”. لذلك، يرى الجراح أن “طفولته لم تغادر شعره، وإنما استوطنته، لأن المكان ابتعد وغار بعيدا في القصيدة. فأنا أعيش في القصيدة طفولتي وذاكرتي وحواسي”. ويضيف الشاعر أن “دمشق من المدن الأبدية، ومن المدن الأولى في التاريخ التي شهدت ميلاد القصائد الأولى في ذاكرة الإنسانية”. إنها كما يقول “مدينة أزمنة متعاقبة. وقد تعايشت آثار تلك الأزمنة في الصور التي رأيتها وملأت بصري وبصيرتي وحواسي. دمشق الآرامية، دمشق الرومانية، دمشق التي تركت أثارها في معالم خالدة. دمشقي التي عرفت الكثير من الأحداث الغابرة في الكتب الأسطورية. إذ إن هنالك تاريخا أسطوريا لدمشق”.
وعن هجرته إلى لبنان في بداية الثمانينيات، يؤكد الشاعر أنه إنما خرج إلى بيروت “خروج الباحث عن الهواء، والهارب من سياط الطغيان الذي سرعان ما تفشى إلى أن أهلك الحجر والبشر والهواء خلال سنوات الثمانين المنصرمة”. إذ يكشف الشاعر أنه وصل بيروت بحقيبة فيها كتابان أو ثلاثة من الكتب التي تركها في دمشق، ومعه قميص وبعض الأوراق، ومخطوط لكتاب شعري هو ديوانه الأول الذي سينشر لاحقا باسم “الصبي”. وهو الديوان الذي كتبت جل قصائده في دمشق. سوى أن هذه القصائد لم تكن كل شعره الذي كتب في سوريا. “في بيروت كنت لاجئا سوريا في خيمة فلسطينية”، وهذا غري يعلق الشاعر، إذا “المألوف هو أن الفلسطينيين هم الذين يهربون من الكيان الصهيوني نحو بلدان وخيمات عربية أخرى، مثل القاهرة وبيروت التي كانت ملاذا أوسع، “لأنها كانت مكانا فوضويا يوم وصلت إليها، وكانت تعيش نهايات الحرب الأهلية، مثلما كانت قاعدة للمقاومة الفلسطينية، ومكانا استقطب كبار الشعراء والمثقفين العرب الذين تمردوا على أنظمتهم”. من هنا، كانت بحسب المتحدث “مختبرا ثقافيا وفكريا وكفاحيا”.
هكذا تعلم الشاعر الدمشقي من بيروت أن الشعر يجب أن يكون “في خندق الدفاع عن الحرية وخندق الدفاع عن الإنسان”. ومع أن الشاعر إنما قدم من خلفية اليسار كما يقول، إلا أن فكرة اليسار أجهضت اليوم، “فتحولنا جميعا إلى أشخاص يؤمنون بالجمال والحق والحرية. وكم يبدو أننا عدنا إلى الوراء، ولكننا في الحقيقة إنما نتموقع في الأمام، لأننا اكتسبنا هذه الخلاصة من كل الأفكار الإنسانية الراقية والعالية ومن الفكر الجمالي الذي يشيع الأدب والفن والكتابة التي تحمل رؤية ونظرة إلى المستقبل”. خلال لقاء تطوان، تحدث الجراح إلى جمهور المغرب عن مجموعة من القضايا الأخرى، ومنها قضية الرحلة باعتبارها انشغالا مركزيا ضمن انشغالات واهتمامات الجراح، وهو مدير المركز العربي للأدب الجغرافي، ومدير جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة. واستحضر الجراح كون المغرب منطلقا لأهم الرحلات الإنسانية الكبرى، منذ الرحلة التاريخية لابن بطوطة، وغيرها من الرحلات الحجازية والسفارية وسواها من مدونات أدب الرحلة والأدب الجغرافي بشكل عام. ولما كان الشاعر يتحدث في تطوان وانطلاقا منها، فقد أكد أن هذه المدينة التي تأسست غادة سقوط غرناطة ورحلة المورسكيين إلى المغرب، إنما هي نتاج رحلة جماعية بهذا المعنى. وعن علاقة الشعر بالرحلة، مرة أخرى، يؤكد الرجل أن كل الشعر العربي قد تحدث عن الرحلة، من امرئ القيس إلى الشاعر العربي المعاصر المغترب، وأن كل قصيدة إنما هي ثمرة رحلة متخيلة أو حقيقية.