الرباط - المغرب اليوم
في التاسع عشر من يوليوز المنصرم، رحلت فتيحة الداودي، المناضلة الحقوقية، عن هذه الدنيا، تاركةً وراءها أحلاماً وطموحات عديدة؛ أبرزها فتح الحدود الجزائرية المغربية بعدما ناضلت بكل ما أوتيت لرصد الواقع اليومي لسكان المناطق الحدودية.
رحلت فتيحة بعد معاناة مع المرض لم يمهلها وقتاً أطول لتحقق مرادها الذي يتشاركه الشعبان المغربي والجزائري، رحلت وعمرها لا يتجاوز 63 سنة، وهي فترة راكمت فيها مساراً طويلاً من النضال على جبهات متعددة.
تخصصت في القانون الخاص واهتمت بحقوق المرأة والحريات العامة، كما تحمل في حقيبتها دكتوراه من جامعة فرنسية في العلوم السياسية؛ ما أهلها لتقلد مهام عديدة في دواوين الوزراء في حكومتي جطو واليوسفي وعباس الفاسي.
وُلدت فتيحة الداودي في ولاية سيدي بلعباس بالجزائر سنة 1955، حيث كان والدها المغربي مستقراً هناك وبعدما ناضل في سبيل استقلال الجارة الشرقية، لكن حين نهاية فترة الاستعمار الفرنسي في الجزائر سنة 1962 بدأ يفكر في العودة إلى بلاده، ليتم ذلك سنة 1965 ويستقر به المقام في مدينة وجدة.
لم يكن والد الراحلة فتيحة الداودي من المطرودين من الجزائر، بل قرر الرجوع باكراً إلى بلاده بعدما تغيرت قيادة النظام السياسي هناك، ولم يبتعد كثيراً عن ولاية سيدي بلعباس، بل بكيلومترات معدودة؛ إذ قطن في وجدة حيث ستكمل ابنته فتيحة الباكالوريا في ثانوية عمر بن عبد العزيز، أقدم ثانوية في المغرب.
بعدما حصلت على البكالوريا، توجهت فتيحة الداودي نحو العاصمة الرباط لدراسة الحقوق في جامعة محمد الخامس، وقد بدأت نضالها في الجمعيات الحقوقية مبكراً، خصوصاً في الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب، وأولت اهتماماً كبيراً للحدود الجزائرية المغربية لأنها كانت متضررة من الإغلاق الذي تم سنة 1994.
إغلاق الحدود بين البلدين أضر بفتيحة الداودي كثيراً، فنصف عائلتها بقي في الجانب الآخر، منه خالها الذي اضطر أن يبقى هناك وألزم بالحصول على الجنسية الجزائرية، كما أن شقيقتها الكبيرة تزوجت واستقر بها المقام هناك، إضافة إلى أبناء عمومتها، ولم يمكن سهلاً على فتيحة أن تلتقي عائلتها التي تفصلها عنها ثلاثون كيلومتراً فقط.
في السابق، كانت الحدود سَلِسةً، خصوصاً في المناسبات الدينية والاجتماعية، لكن في السنوات القليلة الماضية، أصبح الوضع صعباً؛ إذ لجأت سلطات البلدين إلى وضع سياجات على حدودها؛ ما جعل العائلات تتفرق بين الجانبين وتتعمق الأزمة والمعاناة.
رحيلها كان صعباً على زوجها خالد العرايشي، لكنه يكابد حزنه باسترجاع الذكريات، ويحكي تفاصيل لقائهما الأول لهسبريس قائلاً: "التقيت فتيحة سنة 1981 حين كانت موظفةً في مصلحة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، وقد سبق لها أن أمضت الخدمة المدنية في وزارة الخارجية، واضطرت بعد زواجنا أن تتخلى عن عملها للسكن في مكناس حيث كنت أعمل".
بعد عشر سنوات، عادت فتيحة إلى العمل كمستشارة قانونية خاصة، ثم حدث أن اشتغلت في دواوين بعض الوزراء في حكومتي ادريس جطو وعباس اليوسفي، ثم ديوان الرئيس الأول لمحكمة النقض؛ وذلك بحكم إتقانها للغة الفرنسية وإلمامها بالمجال القانوني الذي تخصصت فيه.
حصلت فتيحة على الدكتوراه في العلوم السياسية بعدما درست في جامعة غرونوبل الفرنسية، إضافة إلى الإجازة في القانون الخاص بكلية الحقوق في الرباط وماستر في حقوق الإنسان والحريات العامة، واهتمت بمواضيع المرأة وحق ملكيتها للعقار، فكانت مدافعة شرسة على استفادة المغربيات من حقهن في الأراضي السلالية إسوة بالرجال.
وقبل سنوات، جالت مختلف مدن المغرب بصفتها نائبة لرئيس الحوار الوطني حول المجتمع المدني الذي أطلق في عهد الحكومة السابقة، كما سبق لها أن اشتغلت مع منظمات دولية مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، واللجنة الاقتصادية لإفريقيا التابعة للأمم المتحدة بخصوص حقوق النساء، كما كانت باحثة في مركز جاك بيرك في الرباط.
تصفها حورية إسلامي، الناشطة الحقوقية ابنة مدينة وجدة، التي كانت على معرفة بها، بـ"المهووسة بموضوع فتح الحدود"، وتقول في شهادتها لهسبريس: "تعرفت على فتيحة في مخيم للشباب بالهرهورة إذا لم تخني الذاكرة سنة 2005 وكانت تُنشط ورشة حول الحقوق الإنسانية للنساء لفائدة الشباب".
وقد كانت إسلامي تشتغل إلى جانب الراحلة في إطار جمعية "رياج" بمدينة وجدة التي تهدف إلى فتح الحدود بين الجزائر والمغرب للم شمل العائلات التي تضطر إلى ركوب الطائرة من مدينة الدار البيضاء في اتجاه الجزائر العاصمة، في حين تفصل بينها فقط بضعة كيلومترات عبر الحدود البرية.
وتقول إسلامي في شهادتها حول الراحلة: "كانت المرحومة فتيحة جد مهووسة بهذا الموضوع وتشتغل عليه بحماس وبحس إنساني كبير. وبحكم أصولي الوجدية، لم تكن فتيحة في حاجة إلى أن تفسر لي معنى الرياج الذي هو عبارة عن اختراع بسيط يصلح للإبقاء على الشعلة متوهجة".
كما أن الراحلة، وفق شهادة إسلامي، "كانت شديدة الاقتناع بالدفاع عن الحقوق الإنسانية للنساء والحريات بصفة عامة"، كما أنها واجهت المرض الأول بشجاعة كبيرة وشُفيت وعادت إلى العمل بسرعة وبحماس، وناقشت رسالتها واستمرت في كتابة أعمدة للرأي.
وعبرت إسلامي عن أمنيتها أن يستمر موضوع فتح الحدود مطروحاً، "ولو للأسباب الإنسانية التي كانت تشتغل عليها المرحومة فتيحة، ولم لا الاندماج الاقتصادي المغاربي الذي يستمر إغلاق الحدود في حرمان سكان المناطق الحدودية من اقتصاد خاص بها يخدم مصلحة البلدين والضفتين".
قبل سنتين، أصدرت الراحلة كتاباً بالفرنسية عن دار "لارماتان" بعنوان "الواقع اليومي لسكان المناطق الحدودية بين المغرب والجزائر"، حكت فيه المعاناة اليومية لسكان هذه المناطق، حيث لم يفلح إغلاق الحدود في قطع العلاقات بين العائلات.
تقول فتيحة في كتابها: "إن الحدود الفاصلة بين المغرب والجزائر البالغ طولها حوالي 1600 كيلومتر مغلقة منذ عام 1994، هذا الإغلاق له عواقب كبيرة على الحياة اليومية لسكان المناطق الحدودية الذين اعتادوا على الزواج والتجارة في ما بينهم إلى درجة أن حياتهم أصبحت متمركزة حول هذا القرب وهذا الجوار".
ولأن فتيحة عاشت ذلك وذاقت مرارة إغلاق الحدود، فقد أبت إلا أن تكرس سنوات طويلة لإبراز الآثار الإنسانية السلبية على العائلات التي تشتت شملها بين البلدين. فرغم إغلاق الحدود، تقول: "إن ذلك لم يفلح في قطع العلاقات بل ساهم فقط في تحويلها إلى إجراءات انحرافية؛ حيث إن الزيارات العائلية أصبحت تعتمد على العبور غير القانوني بينما التجارة تحولت إلى تهريب للبضائع".
وحين استعملت الراحلة مفهوم الانحراف، فهي بذلك تقتبس من هوارد بيكر، المحامي والدبلوماسي وعالم الاجتماعي الأميركي، حين يتحدث عن مجموعة من السلوكيات التي لا تحترم المعايير المعمول بها، والتي تحدث عنها في كتاب "الغرباء: دراسة في علم اجتماع الانحراف".
هذا الانحراف تقول فتيحة إنه "نشأ كحاجة ضرورية من أجل المحافظة على ذلك القرب، وهو قرب ضروري وحيوي بالنسبة لسكان المنطقة، وهو يأخذ شكل استراتيجيات للتحايل على إغلاق الحدود، ومن ثم فهو انحراف كنتيجة لقرار سابق عليه أو لنقل إنه انحراف ذو طبيعة نفعية براغماتية".
دراسة فتيحة لهذه المناطق الحدودية جعلها تقول إن الحركة اليومية للبضائع والأشخاص عبر الحدود البرية تفرغ قرار إغلاق الحدود من معناه، مضيفة أن "ساكنة الحدود تنتفض بذلك ضد سياسة الدولتين، والحدود على العموم أصبحت تعبّر عن مقاومة العقبات والعراقيل التي تعترض حرية التنقل".
وتخلص الراحلة إلى القول: "إذا كان مستوى تقدم الدول يقاس مباشرة بوضعية حدودها، فإن الحدود إما تصبح الفضاء التي يتمتع فيه الناس بحرية التنقل أكثر من غيره، والفضاء الأوروبي خير مثال على ذلك، وإما تصبح كما هو الحال بين المغرب والجزائر أكبر تجسيد للتفرقة والنزاع".