القاهرة ـ المغرب اليوم
تربت أجيال عدة ولازالت على صوت العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ، بصوته الهادئ الصادق، الذي يتخلل خلايا القلب فيسري فيها كما الدم، فلا تخلو قصة حب من وجوده، أو حتى ذكرى فراق، وحفرت أغانيه في الوجدان، وربما ساعد موقع الفيديوهات "يويتوب" على تداول الشباب الصغير لأغاني العندليب، فباتت تحقق أعلى المشاهدات في السنوات الأخيرة.
تحل ذكرى وفاته الـ38، الاثنين، وتفتح عائلته منزله في حي "الزمالك"، والمطل على حديقة الأسماك الشهيرة، وهي تلك الحديقة التي يلتقي فيها العشاق، المنزل يكون مُعدًا لاستقبال عشاق العندليب، والذين يحرصون على زيارته في ذكراه كل عام، وكانت شقيقته الراحلة "علية" والتي توفت العام 2009 والتي تعتبر بمثابة والدته هي من قامت على تربيته تستقبل الزوار بنفسها.
ولد عبد الحليم على شبانة، في قرية الحلوات التابعة لمركز الإبراهيمية في محافظة الشرقية في 21 حزيران/ يونيو 1929، وهو الابن الأصغر بين أربعة إخوة هم إسماعيل ومحمد وعلية، وتوفيت والدته بعد ولادته بأيام، وقبل أن يتم عبدالحليم عامه الأول مات أبوه، ليعيش بذلك اليتم، وينتقل ليعيش في بيت خاله متولي عماشة في مدينة الزقازيق.
كان أكبر أخوته، إسماعيل شبانة، مطربًا ومدرسًا للموسيقى في وزارة التربية والتعليم، التحق بعدما نضج قليلًا بكُتاب الشيخ أحمد (مكان كان يوجد فيه شيخ يعلم الأطفال القرآن والقراءة والكتابة)، ومنذ دخول عبدالحليم المدرسة تجلى حبه الجم للموسيقى، حتى أصبح رئيسًا لفرقة الأناشيد في مدرسته، ومن حينها وهو يحاول الدخول لمجال الغناء لشدة ولعه به.
التحق عبدالحليم بمعهد الموسيقى العربية قسم التلحين العام 1943، حين التقى بالفنان كمال الطويل، حيث كان عبدالحليم طالبًا في قسم تلحين، وكمال في قسم الغناء والأصوات، وقد درسا معًا في المعهد حتى تخرجا العام 1948، ورشح للسفر في بعثة حكومية للخارج، لكنه ألغى سفره، وعمل 4 سنوات مدرسًا للموسيقى في طنطا، ثم الزقازيق وأخيرًا في القاهرة، ثم قدم استقالته من التدريس والتحق بعدها بفرقة الإذاعة الموسيقية عازفًا على آلة "الأبوا" العام 1950.
وتعاون عبدالحليم مع الملحن العبقري محمد الموجي، وكمال الطويل ثم بليغ حمدي، كما أنَّ له أغاني شهيرة من ألحان موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب مثل: (أهواك، نبتدي منين الحكاية، فاتت جنبنا)، ثم أكمل الثنائي (حليم - بليغ) بالاشتراك مع الشاعر المصري المعروف محمد حمزة أفضل الأغاني العربية من أبرزها: (زي الهوا، سواح، حاول تفتكرني، أي دمعة حزن لا، موعود.. وغيرها من الأغاني).
وقد غنى للشاعر الكبير نزار قباني أغنية قارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء والتي لحنها الموسيقار محمد الموجي.
تقابل عبدالحليم مع صديق ورفيق عمره مجدي العمروسي في العام 1951 في بيت مدير الإذاعة في ذلك الوقت فهمي عمر، أما من اكتشف عبدالحليم، فهو الإذاعي الكبير حافظ عبدالوهاب الذي سمح له باستخدام اسمه "حافظ" بدلًا من شبانة.
وحينما التقى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، عبد الحليم حافظ، العام 1953 في مقر مجلس قيادة الثورة في الجزيرة، قال له: "أنت ابن لهذه الثورة فنان شاب مخلص" وكان حاضرًا باللقاء الدكتور عبد القادر حاتم، واللواء محمد نجيب والصاغ صلاح سالم، وقد كتب عبد الناصر ذلك في مذكراته الشخصية.
غنى عبدالحليم حافظ 12 أغنية وطنية بدأها بقيام ثورة يوليو 1952، وشجعه عبدالناصر وآمن به، وكانت الثورة بداية مولده وشهرته، حتى أطلق عليه ألقاب "ابن الثورة"، أو "مطرب الثورة"، وكان منها: (عدى النهار، وصورة، وكانت ثورتنا الوطنية، إحنا الشعب). وتألق مع عبدالحليم مأمون الشناوي، وصلاح جاهين، وبليغ حمدي، ومحمد الموجي، وجميل عزيز، فألهبوا مشاعر الشعب وحماسه.
بعد حرب 1967 غنى في حفلته التاريخية أمام 8 آلاف شخص في قاعة ألبرت هول في لندن لصالح المجهود الحربي لإزالة آثار العدوان، وقد قدم عبدالحليم في هذا الحفل أغنية "المسيح"; كلمات عبد الرحمن الأبنودي، وألحان بليغ حمدي، وغنى في نفس الحفل أغنية عدى النهار، وهي أيضًا للأبنودي، وبليغ، وهي واحدة من أبرز أغاني حفلات عبدالحليم على مدى تاريخه الطويل.
كان عبدالحليم يلعب مع أبناء عمه وهو طفل صغير، في ترعة قريته "الحلوات" التي ولد بها، ومنها انتقلت إليه البلهارسيا، والتي دمرته باقي حياته، إذ أجرى إحدى وستين عملية جراحية، حتى إنه علق على معاناته قائلًا: "أنا ابن القدر".
أصيب العندليب الأسمر بتليف في الكبد سببه مرض البلهارسيا، وكان هذا التليف سببًا في وفاته العام 1977م، وكانت أول مرة عرف فيها العندليب الأسمر بهذا المرض العام 1956م عندما أصيب بأول نزيف في المعدة، وكان وقتها مدعوًا على الإفطار بشهر رمضان لدى صديقه مصطفى العريفي.
لم يكن عبدالحليم مستسلمًا للمرض -كما ظن البعض- وإن كان قد اكتسى صوته بالحزن في أغانٍ كثيرة منها "أي دمعة حزن لا"، ورأى البعض أن مرضه كان سر تعاطف جمهوره معه، بالرغم من أنَّ كثيرين أكدوا أن مرض العندليب كان يعطيه قوة لإنتاج ما هو أفضل، وأن صوته وموهبته كانت سر شغف الناس به.
قدم عبد الحليم أكثر من مائتي وثلاثين أغنية، امتازت بالصدق، والإحساس، والعاطفة. وجمع صديقه، مجدي العمروسي، جمع أغانيه في كتاب أطلق عليه "كراسة الحب والوطنية.. السجل الكامل لكل ما غناه العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ"، تضمنت غالبية ما غنى عبدالحليم حافظ.
في العام 1955 شهد عرض أربعة أفلام كاملة للعندليب، فيما وصف بأنه عامه الذهبي سينمائيًا. قدم في السينما ستة عشر فيلمًا سينمائيا، منها: لحن الوفاء، وشاركه بطولته شادية، وليالي الحب بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف، وأحمد رمزي، وموعد غرام، بطولة فاتن حمامة، ودليلة ودمنة مع شادية.
حاول البعض أن يصنعوا أعمالًا فنية تحاكي السيرة الفنية للمطرب عبدالحليم حافظ، إذ تم عرض فيلم روائي بعنوان "حليم في يوليو" 2006، قام بدوره الممثل أحمد زكي، وقد توفي بعدما انتهى من تصوير90% من مشاهد الفيلم، وقام بدورعبد الحليم في مرحلة الشباب ابنه هيثم زكي.
وتم تصوير وإنتاج مسلسل "العندليب حكاية شعب" بطولة الفنان شادي شامل، ولكنه لم يحقق نجاحًا كبيرًا وكان به أخطاء تاريخية كثيرة.
توفي عبد الحليم يوم الأربعاء في 30 آذار/ مارس 1977 في لندن عن عمر يناهز السابعة والأربعين عامًا.
حزن الجمهور حزنًا شديدًا، حتى إن بعض الفتيات من مصر انتحرن بعد معرفتهن بهذا الخبر، وقد تم تشييع جثمانه في جنازة مهيبة لم تعرف مصر مثلها، سوى جنازة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والفنانة الراحلة أم كلثوم، سواء في عدد البشر المشاركين في الجنازة، والذي بلغ أكثر من 2.5 مليون شخص، أو في انفعالات الناس الصادقة وقت التشييع.