مراكش - ثورية إيشرم
يُهدِّد الاندثار مهنة ساقي الماء أو "الكراب" كما عُرفت لدى المغاربة، والتي اشتق اسمها من القربة الجلدية، التي يستخدمها في حمل المياه على ظهره، وانتشرت تلك المهنة سابقًا في الأسواق الشعبية والساحات، ولاسيما في الاحتفالات، حيث يُوزِّع الماء بالأواني النحاسية التقليدية، ويروي عطش المارة والزوار، إلى جانب جلبه الماء إلى المتاجر، وبيوت الناس في الأحياء،
التي كانت لا توجد فيها صنابير.
وارتبطت مهنة الكراب سابقًا بمعتقدات شعبية مراكشية، ومنها؛ أن النساء الحوامل كن يعتقدن أن شرب الماء من قربة "الكراب" يجلب السعادة للمرأة الحامل، ولمولودها المقبل؛ وتحولت بعد ذلك تلك المهنة إلى مهنة سياحية نظرًا إلى انتشار الصنابير في المنازل، حيث يتجول ساقي الماء في الأماكن السياحية بحثًا عن رزقه.
ويسمع المارة في ساحة الجوامع جرسه النحاسي، الذي يعرض على المتجولين شرب الماء البارد، مقابل قدر بسيط من المال، حتى وإن لم يوجد، فهو لا يبخل في سقي من يحتاج، ولا تجد منه إلا ابتسامة عريضة، ينتظر بعدها كلمة شكر، ويترحم فيها على الوالدين، إضافةً إلى أن "الكراب" المغربي متميز منذ القدم بزي تقليدي، يجعله مميزًا بين الناس، إذ يحرص على الظهور به دائمًا، وهو يتكون من ثوب مزركش باللون الأحمر والأخضر، ويعرض فيه ألوان العلم المغربي، مع بنطال قصير، ويضع على رأسه قبعة كبيرة مكسيكية الشكل، مُزيَّنة بخيوط ملونة، تقيه شمس الصيف الحارقة، ويُعلِّق على كتفه قربته المصنوعة من جلد الماعز الممتلئة بالماء المُنسَّم بمادة القطران، وإلى جانبها يُعلِّق أيضًا مجموعة من الأكواب النحاسية.
ولا تكتمل الصورة من دون الجرس النحاسي الذي يحمله في يده، ولعله من أهم أدواته، إذ أن الكراب أو الساقي يعد الجرس بالنسبة له أكثر من مجرد أداة لتنبيه المارة، بل هو عنده وسيلة تعبر عن إيقاع خاص به ورنات مميزة له، لا تصدر إلا من ناقوسه وحده، ولا غرابة أن نجد اليوم بعض هواة مقتني التحف يتهافتون على شراء الأجراس النحاسية الخاصة بالكرابين في مدينة مراكش.
وفي ظل تراجع الوظائف التقليدية التي تميز المدينة، ومن ضمنها منهة "الكراب"، نظرًا إلى أسباب عدة أهمها؛ الوعي الصحي، والخوف الشديد من الإصابة بعدوى الأمراض، إذ أصبح الكثيرون يتجنبون الشرب من إناء سبق وأن شرب منه الكثير من الناس، وتجد "الكراب" قرب الفنادق الكبرى، حيث يتواجد السياح بكثرة، والذين يحبون أن يلتقطوا صورًا معه، مقابل مبلغ بسيط، ومتفق عليه، وفق القوانين السياحية للمدينة.
ولكن الوضع يتسبب في خلق أزمة اجتماعية ونفسية كبيرة للكراب، الذي أصبح يرى أن المهنة التي وُرِّثت له أبًّا عن جد، باتت مهددة بالاندثار بشكل مخيف، لاسيما في السنوات الأخيرة، ما دفع الكثير من جمعيات المجتمع المدني في المدينة الحمراء إلى تقديم الدعم المادي لهؤلاء الكرابين، ووضع ملفهم أمام الجهات المختصة لمناقشته من أجل حماية هذا الموروث الثقافي الذي يساهم في النشاط السياحي للمدينة بشكل كبير جدًّا، والذي أصبح مهددًا بالاندثار، حيث بات حضوره مقتصرًا فقط على الملصقات وإعلانات المغرب السياحية.