الدار البيضاء - المغرب اليوم
على بعد كيلومترات من مركز مدينة جرادة، وبالتحديد في منطقة العوينات، تصطف حوالي 40 عربة، بين سيارة وشاحنة، لنقل أفراد القوات المساعدة، لم يكن كل ما استقدمته الدولة إلى هذه المدينة لإنهاء الاحتجاجات التي عرفتها جرادة طوال الأشهر الماضية، عقب وفاة شقيقين في بئر لاستخراج الفحم الحجري، بل كان مقدمة لانتشار أمني في مدينة الفحم لمنع أي احتجاجات.
هذا الانتشار الأمني لم تعرفه المدينة منذ عدة سنوات، وبالتحديد منذ 20 سنة، عندما اندلعت احتجاجات سنة 1998، في المدينة، غداة الإعلان عن الشروع في التصفية القانونية لشركة مفاحم المغرب، التي كانت تستغل مناجم الفحم الحجري، وشعور العمال بوضع حدلمصدر رزقهم.
في الثامن من مارس/آذار الجاري، وقعت حادثة سير، بواسطة سيارة كان على متنها عدد من نشطاء الحراك الشعبي البارزين، كانت مدخل الشروع الدولة في إنهاء الاحتجاجات بالمدينة. حادثة اعتقل على خلفيتها 3 نشطاء سيحاكمون في التاسع عشر من هذا الشهر في مدينة وجدة.
بالموازاة مع توقيف النشطاء، خرج المواطنون إلى الشارع للاحتجاج، والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وهم: مصطفى أدعنين، أمينأمقلش وعزيز بودشيش، رغم محاولة القوات العمومية منعهم، إلى حدود الثلاثاء الماضي، الذي أصدرت فيه وزارة الداخلية بلاغها الذي حذر المحتجين من مغبة الاحتجاج في الشوارع دون التوفر على الترخيص، كما يستلزم ذلك القانون، والذي أعقبه قرار لباشا المدينة أكد على نفس فحوى بلاغ الداخلية، محددا الشروع في منع الاحتجاجات بحلول الأربعاء، وهو اليوم الذي حدثت فيها لمواجهة الدامية.
“بدون سابق إعلان، تداول عدد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي لقطات فيديو لعامل “سندريات” في عقده الخامس، وهو ينزل إلى إحدى آبار الموت للاعتصام فيها، بعدما سرد الأسباب التي دفعته وعدد من رفاقه إلى اتخاذ هذه الخطوة“، يقول عزيز، وهو ناشط حقوقي في مدينة جرادة، فضل عدم الكشف عن هويته كاملة، وأضاف عزيز، الذي تابع تفاصيل المواجهة التي حدثت بين القوات العمومية والمتظاهرين، أنه بعد انتشار خبر اعتصام عمال“السندريات“، التحق بهم المئات من المواطنين في الغابة التي تقع ضواحي المدينة “ساد جو من التوتر منذ البداية بين القوات العمومية والمتظاهرين، بعدما حاولت القوات العمومية فض اعتصام العمال“، يقول المتحدث ذاته.
من بدأ المواجهة؟ هذا هو السؤال الذي حاول العديد من المتابعين أن يجيبوا عنه، ففي الوقت الذي قال المحتجون بأن القوات العمومية، هي التي شرعت في تفريق المتظاهرين باستعمال القوة، وهو ما دفع بالمتظاهرين للرد على ذلك برشقها بالحجارة، قالت عمالة جرادة في بلاغ لها، إن المحتجين هم من استفزوا عناصرالقوات العمومية وقاموا برشقها بالحجارة.
“المواجهات استعملت فيها الحجارة بشكل كبير لأن المكان الذي اندلعت فيه هو مكان كله حجارة“، يقول أحمد، أحد أبناء المدينة الذي كان حاضرا في احتجاجات الغابة، واستمرت هناك عدة ساعات قبل أن تنتقل إلى محيطها (الغابة) باستعمال الوسائل نفسها، ورغم تدخل القوات العمومية باستعمال القنابل المسيلة للدموع، وإن كان ذلك بشكل محدود وفق المصدر نفسه، إلا أن مكانالمواجهة وامتدادها إلى الغابة جعلها تستمر إلى حدود الساعة السادسة مساء.
في الوقت الذي قالت السلطات إن المواجهات أسفرت عن إحراق 5 سيارات مخصصة للقوات العمومية، وإصابة العديد من عناصرها، 8 إصابتهم خطيرة، وإلحاق أضرار بعدد من تجهيزاتها ووسائل التدخل،في المقابل يؤكد المحتجون أيضا، تسجيل العديد من الإصابات في صفوفهم، يصعب تحديد عددها، بالنظر إلى أن غالبية المصابين فضلوا عدم التوجه إلى المستشفيات لتفويت فرصة توقيفهم منقبل مصالح الأمن، التي كانت توجد أيضا في كل المستشفيات التي استقبلت المصابين، سواء في المستشفى الإقليمي بجرادة أوالمستشفى الجهوي الفارابي في وجدة، والمستشفى الجامعي محمد السادس في المدينة نفسها.
“عاينت العديد من المصابين وسط المحتجين، يتلقون الإسعافات في بعض المنازل“، يضيف أحمد، في تأكيد منه، دون ذكر الإصابات التيكانت تستلزم أن تنقل إلى المسشتفى، كما هو الحال مع متظاهر قاصر أصيب، وفق إفادة بعض المحتجين بكسور في أطرافه السفلى، تطلب نقله إلى المستشفى الجامعي بوجدة.
وفي هذا السياق، وبعد انتشار خبر وفاة القاصر المذكور، نفت عمالة جرادة في بلاغ جديد، الجمعة، تسجيل أي حالة وفاة فيهذه المواجهات الدامية، وكان مصدر مطلع من المندوبية الجهوية لوزارة الصحة، قد أكد في اتصال مع “اليوم24” أن هذه المواجهات أسفرت في المجموع على أكثر من 200 مصاب، غالبيتهم من القوات العمومية جرى استقبالهم في المستشفيات العمومية المذكورة.
بعدما توقفت المواجهات انطلق مسلسل المطاردات، ففي الوقت الذي أوضح العديد من المصادر الحقوقية في المدينة، على توقيف عدد من المحتجين إبان اندلاع المواجهات في الغابة، وفي محيطها، أكدت أيضا، أن مسلسل المطاردات الذي انطلق بعد ذلك عرف توقيف عدد من المحتجين الآخرين.
وكانت السلطات بجرادة قد أكدت بأن مصالح الأمن أوقفت 9 متظاهرين سيجري عرضهم أمام العدالة، وبالنظر إلى الخسائر المسجلة في صفوف تجهيزات وآليات القوات العمومية، فإن التوقعات تشير إلى أنهم سيعرضون على الوكيل العام بمحكمةالاستئناف بوجدة.
هنا سيعيد التاريخ نفسه؛ فالطريقة ذاتها التي اضطر فيها العشرات من المحتجين قبل 20 سنة، الإفلات من قبضة الأمن، اختارعدد من المحتجين التواري خلف الغابات والتحصن في الجبال المحيطة بالمدينة، حتى تنجلي غمامة هذه المواجهات التي خلفتحالة من الصدمة لدى العديد من المتابعين والمراقبين.
اختار العديد منهم، أيضا، عدم العودة إلى منازلهم، وتغيير مكانمبيتهم في منازل الأقرباء والأصدقاء، لتفويت الفرصة على الأجهزةالأمينة لضبطهم وتوقيفهم.
في اليوم الموالي للمواجهات، عرفت المدينة انتشارا أمنيا كثيفا في الشوارع والأزقة المتفرعة من شارع محمد بن عبد الكريمالخطابي، الشارع الرئيس بالمدينة، كما انتشرت في الأحياء التيكانت “تغذي” المسيرات، كما هو الشأن بالنسبة إلى حي حاسي بلال، الحي الشعبي الأكبر على الإطلاق بمدينة جرادة.
هذا الوضع، دفع بأغلب أصحاب المحلات التجارية والمقاهي إلىإغلاق أبوابها، ففي الوقت الذي قال عدد منهم بأن الخوف مناندلاع مواجهات جديدة، هي التي دفعتهم إلى إغلاق محلاتهم للحفاظ على ممتلكاتهم، قال آخرون بأن ذلك جاء للتعبير عن رفضهملما حصل من تدخل القوات العمومية في حق المتظاهرين.
هذا الإضراب غير المعلن، أخلى شوارع المدينة إلا من بعض المارة، وحوّل المدينة إلى ما يشبه شبح، في الوقت الذي كانت تشهد فيه المدينة في أيامها العادية حركة دؤوبة.
رغم الإنزال الأمني الذي شهدته المدينة، حاول بعض التلاميذ، صباح الجمعة، الخروج إلى الشارع للاحتجاج، لكن القوات العمومية حالتدون ذلك، لكن المحتجين هذه المرة سيغيرون من اتجاه احتجاجاتهم، ففيالوقت الذي كانوا ينظمون أغلب احتجاجاتهم في الساحة المجاورةلمقر البلدية، والعمالة، اختاروا الجمعة، الانطلاق في مسيرة منحي أولاد عمر، باتجاه بئر الفحم العشوائي التي كانت مسرحا للحادث المميت، الذي راح ضحيته الشقيقان الحسين وجدوان الدعيوي في22 ديسمبر/كانون أول الماضي.
وأكد المحتجون، أيضا، على رفضهم ما اعتبروه “المقاربة الأمنية“، التي تنهجها السلطات معهم، رغم أن احتجاجاتهم كانت سلمية طوال الأشهر الثلاثة الماضية، مشيرين إلى أنهم سيستمرون بالمطالبة إلى حين تحقيق مطالبهم.