بغداد ـ نهال قباني
تمكن النقيب حارث السوداني من التسلل إلى داخل تنظيم "داعش" المتطرف، متنكرا في كونه جهاديًا، ولكنه كان ينقل معلومات خطيرة وسرية للغاية إلى الفرع السري لوكالة الاستخبارات الوطنية العراقية، وتمكنت هذه المعلومات من إحباط 30 هجوما مفخخًا بواسطة السيارات، و18 هجوما انتحاريًا، وفقا لما قاله أبو علي البصري مدير الوكالة، كما أعطى الوكالة معلومات مباشرةعن بعض كبار قادة داعش.
وذكرت صحيفة "نيويورك" تايمز" الأميركية أن الشاب البالغ من العمر 26 عاما، كان يعمل في مجال تكنولوجيا الحاسب الآلي، وقضى 16 شهرا في صفوف التنظيم، وربما هو أكبر جاسوس في العراق، حيث أحد الأشخاص الأقلاء الذين تمكنوا من اختراق الحدود العليا لداعش، وتمكن في عام 2016، من إحباط تفجير ضخم في أسواق بغداد الجديدة، حيث كان يوجد نحو نصف طن من المتفجرات في سيارته.
تحركات خلية الصقور
وكانت خلية الصقور التابعة للجهاز العراقي قد زرعت مجموعة من المخبرين داخل صفوف قيادات تنظيم داعش، وساعدت معلوماتها الاستخبارية في إخراج مسلحي داعش من آخر معقل لهم العام الماضي وهي تقدم مساعداتها الآن في مطاردة قيادات التنظيم وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي.
وقال مسؤولون "إن خلية الصقور تمكنت من إحباط مئات الهجمات على بغداد طوال 15 عاما، كما اعتبر مسؤولون عسكريون أميركان جهاز مكافحة التطرف العراقي أنه أفضل جهاز من بين أجهزة التجسس غير الغربية".
وقال الكولونيل سين رايان المتحدث باسم التحالف الدولي في بغداد في هذا السياق، "لقد أثبتت خلية الصقور الاستخبارية بأنها وحدة ذات أهمية كبيرة جدا، فقد تمكنت من إخماد خطر تنظيم داعش من خلال اختراق خلاياه وقتل قادته والتطرف وتدمير أسلحته".
ويثق مدير البصري بعمل فريقه السري، قائلا "بإمكان طائرة تجسس مسيرة أن تخبرك من دخل البناية ولكن لا يمكنها أن تخبرك ما دار من حديث داخل الغرفة حيث يجتمع أعضاء التنظيم. ولكننا نستطيع أن نعرف من خلال رجالنا الموجودين داخل هذه الغرف".
تشكلت خلية الصقور في عام 2006، لتظم السوداني وشقيقه مناف، بعد عودته من الدراسة في روسيا وهو يتقن اللغتين الإنجليزية والروسية، وقال شقيقه مناف"لأول مرة خلال فترة طويلة جدا كان حارث متحمسا للحياة.. وكنا نرى ذلك جميعا".
فكرة الاندماج والتسلل
وبعد استيلاء تنظيم "داعش" على مساحات واسعة من البلاد صيف 2014، وافق السوداني طوعا على محاولة التسلل إلى صفوف التنظيم، وقال الضابط المشرف عليه، الجنرال سعد الفالح، إن صورا لأطفال قتلوا على أيدي عناصر تنظيم داعش هو ما دفع حارث إلى هذا الخيار.
واستفاد السوداني في مهمته الخطيرة كون عائلته، بالرغم من أنها شيعية، منحدرة من الرمادي، معقل السنة العراقيين، وكان النقيب يجيد اللهجة المحلية، لكنه اضطر إلى بذل كثير من الجهود لدراسة القرآن الكريم كي لا يكشفه المتطرفون فورا.
تدريبات المهمة الخطيرة
وبدأ النقيب السوداني تدريباته ليتقمص شخصية مسلحي داعش بدءا من تعلم لكنة سكان المناطق الغربية وطريقة صلاة أهل السنة، لأنه من عائلة شيعية وتعلم ترديد شعارات التنظيم وطقوسهم الاخرى، ثم دخل صفوف التنظيم ليصبح شخصا آخر تحت اسم، أبو صهيب، وهو اسم مستعار تحت غطاء شخص عاطل عن العمل من منطقة ذات غالبية سنية في بغداد، وكانت مهمته تتمثل باختراق وكر لتنظيم داعش في الطارمية وهي مصدر توريد الانتحاريين لمدينة بغداد، في إحدى ليالي شهر سبتمبر/ أيلول 2014 كان موعد بدء المهمة، وفي صباح اليوم التالي سار النقيب السوداني باتجاه جامع في الطارمية الذي كان يعتبر مقر اجتماعات خلية تنظيم داعش هناك، بقي داخل الجامع طوال النهار مستغرقا وقتا أكثر مما خطط له ضباطه، ولكنه حقق نجاحا ورحبت خلية داعش بالمجند أبو صهيب وبقي هناك يعيش معهم في الطارمية .
تكليفات داعشية
وجاءت أوامر من أحد قياديي داعش في الموصل بعد أسابيع قليلة، يكلف فيها النقيب السوداني بسلسلة مهام لوجستية رئيسة من هجمات انتحارية تنفذ في بغداد، وذلك لكونه من سكنة بغداد وباستطاعته توجيه الانتحاريين لتلافي نقاط التفتيش عند ضواحي العاصمة وداخل المدينة.
وأحرز السوداني في أول يوم مهمته نجاحا، كان أول خطوة في مشواره المحفوف بالمخاطر، وبعد أسابيع قليلة فقط، تم تعيين السوداني ضمن داعش مسؤولا لوجيستيا مهما في تدبير التفجيرات بالعاصمة، ما سمح للصقور بإفشال عشرات الاعتداءات، حيث جرى تفكيك العبوات واعتقال المنفذين.
وبذلت الاستخبارات كثيرا من المساعي بغية درء شبهات الدواعش عن عميلها، ونشرت في وسائل الإعلام بيانات صحفية مزيفة بشأن التفجيرات التي تم إحباطها في الواقع.
وألحقت حالة من التوتر المستمر تداعيات بصحة السوداني، وذلك في الوقت الذي واجه فيه مشاكل في حياته العائلية، لأن قرينته التي لم تعرف شيئا عن مهمته السرية كانت تعتقد أن إهمال حارث لها ولأطفالهما الثلاثة هو سبب غيابه عن المنزل لفترات طويلة.
وكان يتلقى السوداني في كل أسبوع مكالمة من الموصل تأمره للالتقاء بانتحاريين قادمين إلى الطارمية لأخذ سيارة مفخخة والانطلاق بها، وفي كل مرة كان السوداني يرسل إخطارا لخلية الصقور، وكانت مهمتهم تتمثل باعتراضه مع حمولته المميتة قبل وصولها بغداد.
حجب إشارة التفجير
وكانت سيارة ملاحقة تتبع السوداني وهو يقود سيارته، تستخدم جهار تشويش لحجب إشارة التفجير حيث غالبا ما يستخدم جهاز خلوي لتفجيرها عن بعد، وعبر إشارات يدوية أو اتصالات، وكان زملاؤه يوجهونه لمكان حيث يمكن إبطال مفعول المتفجرات، وإذا كان يقوم بنقل انتحاري فإنهم يغرونه للخروج من السيارة ثم يلقون القبض عليه أو يقتلونه، ثم بعد ذلك تقوم خلية الصقور بإحداث تفجير وهمي وتطلق بيانات كاذبة يدعون فيها حصول تفجير وأحيانا يدعون سقوط عدد كبير من الضحايا، جزء من هذا الإجراء هو للحفاظ على سلامة النقيب السوداني وعدم كشفه.
مضاعفة مهامه الداعشية
وضاعف قادة داعش في الموصل مهام مجندهم السوداني طالبين منه إجراء كشف عن أحياء ومقاهي بغداد كأهداف محتملة، وفي إحدى المهام المكلف بها حاول السوداني التسلل في زيارة نادرة لبيته، وبينما كان هناك اتصل به أحد قياديي داعش طالبا منه تحديد مكانه وقال السوداني إنه في الحي الذي سيتم استهدافه.
ورد عليه القيادي في داعش بأنه يكذب مستندا في ذلك إلى إحداثيات جهاز، جي بي أس، الذي يحدد المكان، قد تكون تلك البطاقة الحمراء الأولى ضد السوداني، ونصحه أخوه مناف بأن تكون تلك نهاية مهمته وأن يرجع للبيت، ولكن النقيب السوداني رفض، وفي مهمة أخرى كلف بها السوداني باستهداف منطقة بغداد الجديدة وبالتحديد قرب سينما البيضاء كان قياديو داعش قد وضعوا جهاز تنصت في السيارة التي يقودها حيث استمعوا إلى مكالماته مع ضباط خلية الصقور الذين أبطلوا مفعول المتفجرات ثم أصدروا بيانا عن انفجار شاحنة بيك أب عند سينما البيضاء دون حدوث خسائر.
وكلف التنظيم النقيب السوداني، في يونيو/ حزيران 2017 بمهمة أخرى، وكانت مهمته الاخيرة، حيث تم إرساله إلى بيت زراعي خارج الطارمية وكانت مهمة مراقبته صعبة لبعد المنطقة وليس لها طريق للفرار، وفي صبيحة 17 يونيو/ حزيران، دخل السوداني البيت الزراعي، وبعد غروب الشمس ورد إخطار لخلية الصقور بأن شيئا ما خطأ قد حدث.
عملية إنقاذ واختفاء النقيب
وبعد ذلك شنت خلية الصقور بالتعاون مع وحدات جيش وشرطة عملية إنقاذ في الطارمية لمداهمة البيت الزراعي، ولكن لم يكن هناك أي أثر للنقيب السوداني، وبعد البحث والمتابعة من خلال مخبرين تم التوصل الى أن السوداني قد تم اقتياده الى مدينة القائم التي يسيطر عليها داعش والبعيدة عن سيطرة الدولة، في بداية شهر أغسطس/ آب، بث تنظيم داعش شريط فيديو دعائيا يظهر فيه مسلحون وهم يقومون بإعدام سجناء معصوبي الأعين، وتأكدت خلية الصقور بأن النقيب السوداني كان من بين هؤلاء، وعندها أصدرت قيادة العمليات المشتركة بيانا تنعى فيه السوداني أوضحت فيه تضحية النقيب بحياته من أجل بلده .
وتم تحرير مدينة القائم في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأرسلت خلية الصقور فريقا للبحث عن جثة النقيب السوداني ولكن لم يجدوا لها أي أثر.