مكة المكرمة - واس
تتجه أنظار المسلمين الجمعة المقبلة إلى رحاب بيت الله الحرام، حيث ستبدأ مراسم تغيير كسوة الكعبة المشرفة عقب صلاة الفجر بالكسوة الجديدة، بإشراف مدير عام مصنع كسوة الكعبة المشرفة بمكة المكرمة الدكتور محمد باجودة، بحضور عدد من منسوبي رئاسة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف ووكيل المصنع ومدير الإنتاج، بقيام 86 شخصا من العمالة والفنيين والصناع بعملية الاستبدال، وذلك جريا على عادة الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي في مثل هذا اليوم من كل عام .
ويعود هذا التقليد إلى عصر ما قبل الإسلام، حيث تعد كسوة الكعبة المشرفة من أهم مظاهر الاهتمام بها، والتشريف والتبجيل لبيت الله الحرام، إلا أن المؤرخين تباينت رواياتهم التاريخية حول أول من قام بكسا الكعبة منذ أن بناها سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، فمنهم من قال إنه إسماعيل عليه السلام، وآخرون قالوا : عدنان بن آدم عليه السلام، وقيل: تبع أسعد أبو كرب ملك حمير، وهو المرجح لدى العديد من المؤرخين على اختلاف بينهم في الفترة التي كسيت فيها .
ويعد "تبّع" أول من كسا الكعبة كاملة في الجاهلية بعد أن زار مكة المكرمة ودخلها دخول الطائعين سنة 220 قبل الهجرة، وهو أول من وضع للكعبة باباً ومفتاحاً، ثم بدأت قريش في عهد قصي بن كلاب تنظيماً جديداً للكسوة تشارك فيها القبائل والأثرياء في الكسوة كل حسب إمكاناته، وظلت قريش حريصة على ذلك سنوياً، حتى أنها تقاسمت كسوة الكعبة عام بعد عام مع أبي ربيعة بن المغيرة إلى أن توفي .
وبقي الحال على ماهو عليه بكسوة الكعبة المشرفة حتى جاء فتح مكة المكرمة على يد نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في السنة الثامنة من الهجرة، حيث كساها عليه أفضل الصلاة والتسليم بالثياب اليمانية، وذلك لأول مرة في العصر الإسلامي، ثم سار الخلفاء الراشدين على هذا النهج، حيث كسيت في عهد خليفة رسول الله أبو بكر بالقباطي المصرية، وكذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
بعد ذلك كسيت الكعبة المشرفة في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، بكسوتين في آن واحد، حيث تم كسوتها بالبرود اليمانية والقباطي المصرية، بينما لم يتمكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من كسوة الكعبة بسبب انشغاله بوحدة المسلمين نتيجة الفتن والحروب الداخلية .وفي العصر الأموي تطورت العناية بكسوة الكعبة المشرفة حسبما ذكرته دارة الملك عبدالعزيز في المجلد الذي أصدرته بعنوان ( كسوة الكعبة المشرفة في عهد الملك عبدالعزيز، 1343هـ - 1373هـ )، حيث كساها معاوية بن أبي سفيان بكسوتين في العام، الأولى بالديباج، وذلك في يوم عاشوراء، والثانية في أخر شهر رمضان بكسوتها بالقباطي، كما كساها يزيد بن معاوية بالديباج الخسرواني، فيما تعد كسوة عبدالله الزبير رضي الله عنه أكبر كسوة للكعبة المشرفة في التاريخ، لأنه رضي الله عنه أدخل من الحجر في الكعبة ما أنقصته قريش من قواعد سيدنا إبراهيم عليه السلام .
واستمر خلفاء العصر الأموي في إرسال كسوة الكعبة المشرفة مرتين في العام، إلا أنه في نهاية عصرهم لم يرسلوها نظراً لقلة موارد الدولة، وانشغال الخلفاء بالاضطرابات التي حدثت في ذلك العهد حسبما ذكر عدد من المؤرخين، حتى أن الكعبة طيلة تلك الفترة كسيت بالحلل، وبقي الحال على ما هو عليه حتى في العصر العباسي، فلم يهتموا في بداية عصرهم بكسوتها نتيجة انشغالهم بترسيخ دعائم الحكم العباسي، لكنهم التفتوا إليها في عهد الخليفة المهدي، الذي كساها أثناء تأديته الحج عام 160هـ، ثلاث كسوات في وقت واحد بأجود أنواع القباطي، والخز، والديباج، ليتواصل بعدها الاهتمام بالكسوة في عصر المماليك والدولة العثمانية .
وحول كسوة الكعبة المشرفة في العصر الحالي، أوضح مدير عام مصنع كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة الدكتور محمد عبدالله باجودة، أن تقليد الكسوة يتم مع بداية شهر ذي الحجة من كل عام، حيث يتم تسليم كبير سدنة الكعبة الكسوة الجديدة، في مراسم تليق بهذا الحدث الإسلامي الرفيع ، ليتم في فجر يوم التاسع من شهر ذي الحجة إنزال الكسوة القديمة وإبدالها بالكسوة الجديدة، حيث يتسمر العمل فيها حتى صلاة العصر من اليوم ذاته، مبيناً أن الكسوة القديمة تعود إلى مستودع المصنع للاحتفاظ بها .
ولفت النظر في تصريح لوكالة الأنباء السعودية إلى أنه يعمل في مصنع الكسوة الكعبة المشرفة أكثر من 240 صانعاً وإدارياً، موزعين في أقسام المصنع المزودة بآلات حديثة ومتطورة في عمليات الصباغة والنسج والطباعة والتطريز والخياطة، والمكونة أقسامه من: الحزام، وخياطة الثوب، والمصبغة، والطباعة، والنسيج الآلي واليدوي، وتجميع الكسوة، إلى جانب أكبر مكنة خياطة في العالم من ناحية الطول، حيث يبلغ طولها 16 متراً، وتعمل بنظام الحاسب الآلي، كما أن هناك بعض الأقسام المساندة من المختبر والخدمات الإدارية والصحية للعاملين بالمصنع، مشيراً إلى أن تكلفة صناعة الكسوة تقدر بأكثر من 22 مليون ريال سنويا، شاملة المواد المستهلكة وأجور العاملين، لافتا الانتباه إلى أن الكسوة تستهلك نحو 700 كيلو جرامًا من الحرير الخام، الذي تتم صباغته داخل المصنع باللون الأسود و120 كيلو جراما من أسلاك الفضة والذهب المبطنة بقماش من القطن الأبيض المتين .وأفاد باجودة أنه يستخدم خلال استبدال الكسوة سلم كهربائي يثبت على قطع الكسوة القديمة من على واجهاتها الأربع، ثم تثبت القطع في 47 عروة معدنية موجودة في كل جانب، ومثبته في سطح، ليتم أثرها فك حبال الكسوة القديمة ويقع مكانها الكسوة الجديدة، مبيناً أن الفنيين في المصنع يتولون وزن قطع الكسوة، إضافة إلى تثبيت قطع الحزام فوق الكسوة في أربع قطع ومجموعها 16 قطعة، بما يوازي نحو 47 متراً، وست قطع تحت الحزام، وقطعة إهداء خادم الحرمين الشريفين للكسوة وسنة الصنع، ومن ثم يتم تثبيت أربع قطع صمدية كتب عليها قوله تعالى ( قل هو الله أحد الله الصمد) على الأركان، و12 قطعة على شكل قناديل مكتوب آيات قرآنية توضع بين جهات الأربعة، وقطعة أخرى تركب في ستارة باب المشرفة، إضافة إلى أربعة قطع أعلى ركن الحجر الأسود، فيما يبلغ وزن الثوب كاملاً ما يقارب الطن .
وتابع باجودة تصريحه بأنه يوجد على الكسوة من الخارج نقوش منسوجة بخيوط النسيج السوداء ( بطريقة الجاكارد )، كتب عليها لفظ ( لا إله إلا الله محمد رسول الله) و( سبحان الله وبحمده ) و( سبحان الله العظيم ) و( يا حنان يا منان يا الله )، وتتكرر هذه العبارات على قطع قماش الكسوة جميعها وعلى ارتفاع ( تسعة أمتار ) من الأرض وبعرض ( 95 سنتيمترا )، بحيث يثبت حزام الكعبة المشرفة، وتستبدل مرة كل عام، بينما كسوتها الداخلية ذات اللون الأخضر، لا تستبدل إلا على فترات متباعدة حسب ما تدعو الحاجة، وذلك لعدم تعرضها للعوامل الجوية، مشيراً إلى أن قطع الكعبة مطرزة من قماش الحرير الطبيعي الأسود السادة، وحروفها مغطاة بأسلاك الفضة والذهب، مكونة من (16) قطعة في كل جهة من جهاتها الأربع في كل جهة أربع قطع، موصلة مع بعضها البعض، ويبلغ طول محيط الكعبة (47) مترًا تقريبًا وهو طول حزام الكعبة، وعلى قطع الحزام آيات قرآنية بالخط الثلث المركب الجميل، مطرزة حروفها بأسلاك الفضة المطلية بالذهب .
وامتدادا لهذه التقاليد الإسلامية والعناية والاهتمام بها أولت الحكومة الرشيدة منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - رحمه الله - العناية بالكسوة وصناعتها، الذي كان يؤكد على عدم إجراء أي تغيير جذري عليها، رغبه منه - رحمه الله - في الحفاظ على طابعها الإسلامي الأصيل الذي اشتهرت به من حيث اللون والزخرفة، والنصوص الكتابية، فكسيت الكعبة في عهده بأكسية مختلفة منها ما صنع في معمل الكسوة بأجياد مكة المكرمة، ومنها ما صنع في الخارج.وقد أمر الملك عبدالعزيز - رحمه الله - في عام 1345هـ الشيخ عبدالله السليمان بإعداد كسوة الكعبة المشرفة، حيث باشر في صناعتها في اليوم الخامس من شهر ذي الحجة، وألبست الكعبة في صباح يوم عيد الأضحى آنذاك كسوتها، المعدة من الجوخ الأسود الفاخر، المبطن بالقلع المتين، المؤطرة بآيات من القرآن الكريم المكتوبة بالقصب الذهبي والفضي، بالإضافة إلى ستر للباب مرصع بالقصب والفضة، فيما صنعت الكسوة في معمل أجياد بالهند، وذلك على غرار الكسوات السابقة مع تعديلات خفيفة تتمثل في الاستغناء عن بعض النصوص الكتابية، والتصميم، والزخرفة.
وكانت صناعة كسوة الكعبة في عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - تعد باستخدام قماش الحرير الطبيعي المصبوغ باللون الأسود، المنسوج عليه عبارات دينية متنوعة بخط الثلث الجميل داخل أشكال منشورية أفقية الوضع، تتكرر بكامل الثوب، وعرض كل شكل فيها 10 سنتيمترات، تعرف بزخرفة الزجاج، كتب بداخلها الشهادتين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )، وعلى ضلعي الشكل المنشوري من أعلى نسجت عبارة ( جل جلاله) طرداً وعكساً، أما مناطق الفراغ من أسفل فنسج عليها لفظ الجلالة بصيغة المنادى ( يالله)، بحيث نسج حرف النداء ( يا ) في الجهة اليسرى، متصلاً بحرف ( الألف ) في لفظ الجلالة ( الله )، مكونين مع بعضهما خطأ منكسراً ثانياً داخل الشكل المنشوري، ويقرأ اللفظ بشكلٍ مائلٍ لأنه نسج على نسق الشكل المنشوري، بحيث تبدأ الكتابة من أسفل إلى أعلى، ثم تنحدر مرة أخرى إلى أسفل .
ويعمل ثوب الكسوة في ذلك الوقت من 58 قطعة، عرض كل واحد منها 95 سنتيمترا، مكونة من ثماني ستارات ( أحمال ) طول الواحدة 15 متراً، بحيث تثبت كل ستارتين رأسياً في جهة من جهات الكعبة المشرفة، بواسطة حلقات معدنية مثبته في سطح الكعبة من أعلى، ثم تربطان إلى بعضهما بواسطة عرى وأزرّة، وتسدلان إلى الأسفل لتثبت في حلقات مماثلة مثبته في "الشاذروان" (الوزرة المحيطة بأسفل جدار الكعبة المشرفة من مستوى الطواف) ، وهكذا كلما ثبتت ستارة أوصلت بالمجاورة لها عن طريق هذه الأزرة.كما انحصرت المواد الخام التي تدخل في صناعة كسوة الكعبة المشرفة في عهده - رحمه الله - في مواد الحرير، والقطن، والأسلاك الذهبية والفضية، والأصباغ، ومثبتات الألوان، وأوراق الرسم والتصميم، والأقلام، وبودرة التحديد، والنشا والصابون المبشور، بينما تقوم بصناعتها آلات المقصات، وإبر تنفيذ الزخارف والكتابات، والإبر الخاصة بالسدي، علاوة على آلات لف الحرير والأسلاك الذهبية والفضية، والمساكر، والمتر، وقضبان الحديد، وصنابير الصبغة، لتمر الصناعة بمراحل خمسة هي : الصباغة، والنسيج، والطباعة، والتطريز، والتجميع.
بعد ذلك واستمرارا بهذه العناية والتقليد الإسلامي العريق أمر الملك سعود بن عبدالعزيز - رحمه الله - في عام 1962م، بتأسيس دار صناعة كسوة الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، بينما وضع الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله - حجر الأساس لمصنع الكسوة الجديد بأم الجود بمكة المكرمة، وذلك في عام 1972م، الذي افتتح في يوم السبت الثامن من مارس 1977م، أما في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز - رحمه الله- فضم المصنع أقسامًا مختلفة لتنفيذ مراحل صناعة الكسوة، ابتداءً من صباغة غزل الحرير، ومرورًا بعمليات النسيج، وعمليات التطريز، وانتهاء بمرحلة التجميع .
وتواصلت هذه العناية في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - حيث وفرت في مصنع الكسوة ماكينة خياطة آلية ألمانية الصنع تعمل بواسطة الحاسب الآلي، كما وفرت مكائن صباغة جديدة من إيطاليا، تعمل بنظام آلي باستخدام البخار، ليستمر هذا العطاء والعناية حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله-، الذي وجه بتحديث مكائن النسيج بالطرق الآلية، والاستمرار في إجراء الدراسات والأبحاث التي تطوّر من عمل المصنع .