بقلم - علي الرز
صحيحٌ أن النظام في إيران حوّل رئاسة الجمهورية الى منصّةِ تسويقٍ أكثر منها مَصْدر قرارٍ، وصحيحٌ أن السلطة في مكانٍ آخر غير مقرّ الرئاسة، وصحيحٌ ان للحرس الثوري وأجهزة الأمن والاستخبارات يداً مُطْلَقة ومُعَرْقِلة وقادِرة ... لكن شيئاً ما لا يمكن تَجاوُزه في الانتخابات الإيرانية الأخيرة وهو توْق الإيرانيين العاديين وخصوصاً طبَقة الشباب الى التغيير.
معادلةُ ان فوزَ روحاني او رئيسي "لن تغيّر الكثير طالما ان الاثنيْن تحت عباءة المُرْشِد الأعلى" يمكن ان تستقيم ولو جنحتْ التفاصيل والاستثناءات يميناً او يساراً، لكن أن يتصوّر أحدٌ ان ملايين الإيرانيين الذين انتخبوا روحاني حرّكتْهم أجهزة النظام او وجّهتْهم سلطة الولي الفقيه فهذا هو الوهم بعيْنه، لأنّ مَن تابَع حملات الشباب وما دفعهم الى انتخاب "الأقلّ سوءاً" بالنسبة لهم، يَلمس حجم رغْبتهم في التغيير ولو في حدودِ الممكن، فإن كان الخيار بين الإصلاحي (حسب الشعار) والمُحافِظ فهم اختاروا الإصلاحي. ولو لم تتدخّل سلطة المرشد ومجالس الخبراء والصيانة والتشخيص والمصلحة لحذْف مرشحين ومنْعهم من خوض السباق الرئاسي، لكنا شهدنا مفاجآت فعلية وتَجارب مختلفة حتى ولو لم يُكتب لها النجاح.
استخدم الحرس الثوري كلّ أوراقه لحشْد الدعم لرئيسي، ولعبَ على الوتر الاجتماعي - الاقتصادي، وكيف ان كلّ الصورة الإيجابية لروحاني في الخارج لم تفلح في الحدّ من الغلاء داخلياً ولا في تنفيذ خططٍ تنموية حقيقية ولا تحسين الوضع المعيشي، لكن هذه المشاكل عملياً هي مشاكل نظامٍ لا مشاكل واجِهاته.
لا شك في ان الرقم الذي حقّقه رئيسي يعكس مزاجاً شعبياً كبيراً ما زال متأثّراً بعملياتِ تعبئةٍ عمرها أربعة عقود، كما لا شك في أن الإيرانيين الذين انتخبوا روحاني استَحْضروا عمليات التزوير التي حصلتْ مع فوز أحمدي نجاد بولايةٍ ثانية وما رافقها من قمْعٍ للمسيرات واضطهادٍ وضحايا، ولذلك يمكن القول إنهم استخدموا الهامش المتاح لهم حتى النهاية لإظهار استعدادهم لتغييرٍ طال انتظارُه.
يبقى ان المعادلة بين داخل إيران وخارجها لن تستقيم ما دام النِّفاق سيّد الموقف. فروحاني امتلك القدرةَ عبر أدواته التنفيذية لتسويقِ منْتجٍ غير موجود، أي "إيران مختلفة" ديموقراطية تعدُّدية لا تتدخّل في شؤون الغير وتريد أفضل العلاقات مع جيرانها والتزام المواثيق الدولية وتعتمد الحوار لحلّ الخلافات. ففي هذه الـ "إيران المختلفة"، تَوسّع الحرس الثوري الى اليمن، وتبجّحتْ طهران بأنها تسيطر على أربع عواصم عربية ستضمّ اليها مكة المكرّمة لاحقاً، وصار تصدير ميليشيات الثورة الى دولِ الجوار الخبز اليومي للشعب الإيراني، فيما كان الحوار فعلاً سيّد الموقف مع "الشيطان الأكبر" من أجل الاتفاق النووي، وتبيّن ان طهران تريد فعلاً أفضل العلاقات مع واشنطن وانها مستعدّة للالتزام بكل الاتفاقات المبْرَمة معها.
في المقابل، كان الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يسوّق منتجاً لا يعترف به إلا في خطاباته، أي الشعب الإيراني. ففي "عقيدته" التي اعتبرها خلاصة تجربته، تحدّث مطولاً عن الشعب الإيراني وحيويته وحاجته للانفتاح وفكّ العقوبات عنه، انما في هذه "العقيدة" انفتح أوباما على النظام الإيراني فقط، بل أعطى مبرّراتٍ لتَشدُّد الولي الفقيه، وساعد طهران في الانتشار عراقياً وسورياً ولبنانياً وفلسطينياً ويمنياً عبر حصْر مهمّته بإنجاز الاتفاق النووي.
كان النِّفاق سيّد الموقف بين الداخل والخارج. أوباما لم يترك مسؤولاً عربياً او مُسْلِماً زاره إلا وقال له ان رفع العقوبات عن الشعب الإيراني سيمكّنه من تغيير نظامه تدريجياً، وروحاني لم يترك وسيطاً عربياً إلا وقال له إنه يريد الانفتاح وإقامة أفضل العلاقات مع المحيط لكن الحرس الثوري وسلطات الأمن التي يسيطر عليها التيار المُحافِظ وقُرْب هؤلاء جميعاً من المُرْشِد كلّها أمورٌ تُعَرْقِل المهمة ... وفي النِّفاقيْن، الشعب الإيراني يدفع الثمن.
ربما كانت كثافة مشاركة الشباب الإيراني في الانتخابات وحملاتهم غير التقليدية واحتفالاتهم، رسالةً الى الداخل والخارج بكسْر حلقة النِّفاق وتحرير المَشهد من دائرة حصرية عمرها يوم كل أربع سنوات ... لكن الرسالة قد يلفّها الحرس الثوري ويضعها في زجاجةٍ ويرميها في البحر ثم يرسل لاحقاً خلاياه الى الدولة التي وصلتْ شواطئها بحجّة استعادتها.
كم هو سِجْنكَ كبيرٌ أيها الإيراني، وكم هو جميلٌ توْقك الى التغيير، وكم هي خيبةُ الأملِ بشعة ... ومع ذلك شيءٌ ما تَحرّك او سيتحرّك.