عريب الرنتاوي
ليس “الصمت الأردني” عن التدخل الروسي العسكري في سورية،تعبيراً عن “اللاموقف” كما قد يُخيّل للبعض من سياسيين وإعلاميين ... إنه تعبير عن موقف، يستبطن درجة من الرضا عن هذا التدخل، وإن كان لا يخفي بعض عناصر القلق والتحسب، لما يمكن أن يترتب على هذا التدخل من نتائج وتداعيات.
أما عن السؤال: لماذا يلجأ الأردن للتعبير عن “الرضا” بـ “الصمت”، فجوابه واضح تماماً لمن أراد فهم المقاربة الأردنية من الأزمة السورية الممتدة منذ أزيد من سنوات أربع ... فالديبلوماسية الأردنية التي حاذرت التورط في حروب المحاور والمعسكرات المتقابلة، تقيم وزناً لمواقف وتوجهات عواصم إقليمية ودولية حليفة، أبدت تحفظاً، بلغ حد الرفض والإدانة، للتدخل الروسي ... “الصمت” هنا، هو أقل الخيارات كلفة، للتعبير عن الموقف الرسمي حيال التدخل العسكري الروسي في سوريا.
لماذا يبدي الأردن قدراً غير خافٍ من الارتياح للخطوة الروسية ذات الطبيعة الاستراتيجية في سوريا؟
جواب هذا السؤال، يمكن تلخيصه في العناصر الثلاثة التالية: (1) للأردن علاقات وثيقة مع روسيا، والملك أنشأ روابط شخصية مع بوتين، تعود لعدة سنوات، وثمة مروحة من المصالح المشتركة في مجالات الطاقات والصناعة ليست خافية على أحد ... (2) الأردن يرى إلى روسيا، كدولة مسؤولة، والمؤكد أنه يفضل التعامل معها على أن يجد نفسه مضطراً للتعامل مع الخيارات والبدائل الأصولية، سواء اتخذت طابعاً جهادياً، أم نحت منحى إيرانياً – ثورياً، وجنوب سوريا، تحول في مراحل معينة من مراحل تطور الأزمة السورية، إلى ساحة صراع بين هذه الأطراف، وعلى مسافة غير بعيدة، من المدن والقرى والبلدات الأردنية ... (3) والأردن لا يساوره شك، في رغبة روسيا في الوصول إلى حل سياسي، يحفظ وحدة الدولة السورية، ويقي مؤسساتها خطر الانهيار والتفكك، بالأسد أو من دونه، وتلكم عناصر ومرتكزات المقاربة الأردنية للأزمة السورية منذ اندلاعها.
هل ثمة ما يقلق الأردن من قرار موسكو التدخل عسكرياً في الأزمة السورية؟
نعم، فإن لم ترتبط المقاربة العسكرية الروسية، بمسعى جدي للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، فإن ذلك سيعني بلا شك، إطالة أمد الأزمة، وفتح الأبواب على احتمالات تفاقهما، وتعميق الانقسامات المذهبية والطائفية في المنطقة، والتسبب في احتشاد مزيد من “الجهاديين” على مقربة من حدودنا، واقتلاع المزيد من السوريين من أمكان تواجدهم إلى المنافي القريبة والبعيدة، ومن بينها الأردن، الذي ينؤ كاهله بحمل اللاجئين الثقيل، اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وغير ذلك.
هنا، وحول هذه النقطة بالذات، تبدو الخشية الأردنية نابعة بالأساس من شركاء موسكو وحلفائها في سوريا، والخشية تتجلي بالأساس من احتمال تفاقم إحساس هؤلاء بـ “فائض القوة”، واكتفائهم بدور روسيا كـ “بلدوز” لسحق داعش والفصائل المسلحة، أما حين تأتي لحظة البحث في المصالحة والانتقال والحلول السياسية، فقد نجد تقلبات وتبدلات، في خريطة المواقف والمواقع والتحالفات، وساعتئد، سيصعب تخيل السيناريو الذي سينتظم تطور الأحداث وتداعياتها في سوريا وجوارها.
هل يوفر التدخل الروسي للأردن، نافذة فرص لتطوير دوره السياسي والدبلوماسي، بما يخدم مصالحه ويعزز مكانته؟
نعم، وأحسب أن الوجود السياسي والعسكري الروسي الكثيف في سوريا يوفر فرصة لمعالجة أهم تهديدين يواجهان الأردن من خاصرته الشمالية:
الأول، ويتمثل في ملف اللاجئين، حيث بات ممكناً اليوم، وربما لأول مرة، الدخول في حوار وتفاوض مع النظام في دمشق، مباشر، وعبر الوسيط الروسي، لتحويل محافظة درعا وبعض المناطق الجنوبية، إلى “مناطق آمنة توافقية”، تمنع تدفق المزيد من اللاجئين للأردن، وتوفر ملاذاً لعودة المزيد ممن يقيمون في الأردن ... الأردن بمقدوره أن يعرض على موسكو، ومن خلالها على دمشق، فكرة “وساطته” لإنجاز مصالحات وطنية في جنوب سوريا، تستنثي “النصرة”، وتشمل مختلف الفصائل المحسوبة على الاعتدال و”الجيش الحر”، لتشكل هذه القوى، مع وحدات الجيش السوري، وبحماية روسية، مظلة لهذه المنطقة الآمنة، وأشدد على “التوافقية” ... مثل هذه المقاربة، تخدم أولاً مصالح الأردن، وتوفر لروسيا ثانياً، فرصة تبديد الحملة السياسية والإعلامية المضادة، التي تتهمها بقتل المدنيين واستهداف المعارضة المعتدلة، وتوفر للمعارضة المعتدلة ثالثاً، “مقعداً” على مائدة الحوار والحل السياسي، وتغلق ثغرة أمنية، لطالما عانى منها النظام رابعاً ... أي أننا سنكون أمام مبادرة رابح – رابح من جديد.
والثاني، ويتصل بالتهديد الإرهابي، فالعلاقة الأردنية الروسية المميزة، تكفل للأردن، حق التدخل وإبداء الرأي وطرح البدائل والخيارات، عندما يحين موعد فتح الجبهة الجنوبية، فالأردن لا يريد أن يرى على حدوده، لا القوى الإرهابية المتشددة، ولا وحدات الحرس الثوري وقوات النخبة من حزب الله، وآخر ما يريده الأردن، أن يرى عمليات تسرب وفرار للجماعات والعناصر الإرهابية إلى داخل حدوده، في حال اشتد الخناق وضاقت الأطواق من حول اعناقهم.
حتى الآن، أدارت الدبلوماسية الأردنية الملف السوري، بنجاح نسبي ظاهر، وتمكنت من تخطي حقل الألغام الشائك ... لم تحصد الرضا المطلوب من الجميع على الدوام، ولكنها في الغالب، لم تحصد الكثير من النقمة والإدانة والتنديد ... بـ “الجملة” كان الأداء صائباً، حتى وإن اختل الميزان بـ”المفرق” في بعض الأوقات لصالح هذا الفريق أو ذاك المعسكر ... المضي في هذه السياسة، يبدو أمراً حميداً، وأقل كلفة، لكن ذلك لا يمنع من إطلاق مبادرات إيجابية، كتلك التي تحدثنا عنها منذ عامين، وأكثر من مرة، ودائماً بعنوان: “المنطقة الآمنة التوافقية”...موسكو وفرت لعمان فرصة لاختبار هذه المبادرة وإنضاجها، وليس من الحكمة أن نبددها بالحذر المبالغ فيه، والتحسبات التي لا مطرح لها.