بقلم : عريب الرنتاوي
أن تقرأ البيانات والتصريحات التي تصدر عن جماعات الإسلام السياسي، معظمها على الأقل، لا يعني أنه سيكون بمقدورك أن تشكل موقفاً واضحاً عن مواقف هذه الجماعات من الإرهاب بطبعتيه “الداعشية” و”القاعدية” ... فهذه البيانات مصاغة بعناية مشددة، وهي تراعي اعتبارات وحسابات سياسية وأمنية و”علاقات عامة” كثيرة، وهي تضمر أكثر مما تظهر، عن مواقف هذه الجماعات الفعلية، وربما عملاً بالقاعدة “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”.
يتعين أن تقصد مطارح أخرى للتنقيب عن حقائق المواقف و”جوانيّاته”
... وسائل التواصل الاجتماعي باتت توفر مخزونا هائلاً من المعارف عن تفاصيل ما يدور في “وعي” و”لاوعي” القواعد والحواضن الاجتماعية والسياسية و”الحزبية” لهذه الحركات، إذ يندر ما تجد ناشطاً في صفوفها لا يتوفر على صفحة على الفيسبوك أو حساب على توتير... هنا وهنا بالذات، سيكون بمقدورك أن تتعرف على “دواخل” التربية والتثقيف الحزبي والعقائدي ... هنا وهنا حصراً، تنجلي الصورة من دون أي “رتوش” او “مكياج”.
في الأيام القليلة الفائتة، اشتعلت مواقع التواصل بطوفان من التعليقات حول ما يجري في الفلوجة وجوارها، والإسلاميون، كما ثبت بالملموس، هم الأنشط على مواقع التواصل الاجتماعي، لا فرق هنا بين مدرسة وأخرى من مدارسهم، جميعهم خبراء وأكفاء في التعامل مع هذه الروافع الهائلة للتواصل والتجنيد ... فكيف يمكن استنباط حقائق الموقف مما يجري في الفلوجة، من بين ركام التعليقات و”التغريدات” و”البوستات”؟
ابتداءً، لن تجد أحداً يدافع عن الإرهاب أو يهجوه، فهذه المفردة تتصدر شعارات هذه الجماعات، ولأنها كلمة “قرآنية”، فإن بعضهم يحيطها بهالة من القداسة، تمنعه من هجاء الإرهاب والإرهابيين، لكنهم من الجهة الثانية، مطاردون بقوانين محاربة الإرهاب في دولهم ومجتمعاتهم، ولن يكون بمقدورهم بحال، أن يسجلوا على أنفسهم “تهمة” دعم الإرهاب والتشجيع عليه والترويج له.
ولن تجد أحداً يدافع عن “داعش” بصورة مباشرة، أو يذكرها بأي خير ... بيد أنك ستجد أميالاً من التغريدات والتعليقات التي تندد باستخدام داعش كذريعة لضرب أهل السنة والجماعة ... وستجد أن لـ “داعش” اسماً حركياً جديداً، هو الفلوجة ... فكل حملات التضامن والبكائيات واللطميات على “الحاضرة السنيّة المغدورة”، لا تقترح أبداً التمييز بين مدنيين و”جهاديين”، الجميع تماهوا تحت مسمى واحد: الفلوجة.
وثمة طوفان من الأدعية بكل اللهجات، لأن ينصر الله الفلوجة وأهلها وجهادها، وآخرون آثروا رفع الروح المعنوية لأبناء مذهبهم بالقول إن الفلوجة التي هزمت الأمريكان، ستهزم الفرس والمجوس والروافض ... لا أحد يكلف خاطره عناء البحث والتنقيب، ليخبرنا من ذا الذي يقاتل في الفلوجة غير “داعش”؟ ... هل هناك قوى لا نعرفها، تستحق كل هذه الأدعية وحملات المناصرة وكسب التأييد؟ ... لا أحد لديه ما يقنعنا بان “شعب الفلوجة” ينتصر لـ “داعش” ويحتضن “استشهادييها” و”انغماسييها”، في مواجهة التقارير متعددة المصادر، التي تتحدث عن إقدام داعش على منع سكان المدينة من مغادرتها، بهدف استخدامهم دروعاً بشرية؟ ... الفلوجة تختصر الجميع، وتخفي تحت اسمها ذي البريق الجاذب، كل “الدواعش” الذين تسللوا إليها واقتحموها وفرضوا على أهلها نظاماً بربرياً - ظلامياً على أهلها وساكنتها ... لكن في حروب المذاهب والطوائف، تصبح هذه تفاصيل، وتُقَدم الفلوجة على أنها طليعة الفتح الإسلامي في مواجهة “جاهلية هذا الزمان” وعبدة أوثانه ونيرانه.
في السجالات غير المنتهية حول الفلوجة وأكنافها، تكتشف أن كثيرا من قواعد هذه الحركات والجماعات ونشطائها، يحتفظون بموقف “نسبي” من “داعش”، فهو سيئ فقط، إن قورن بالإخوان المسلمين أو حزب التحرير أو حتى جبهة النصرة والقاعدة، ولكن حين تقع الواقعة بين “داعش” وأي فريق غير إسلامي، فهو يختصر الإسلام وينطق باسمه ويذود عنه، وتلقى تعاطفاً مثيراً ... بل وحين يشتبك “داعش” مع مسلمين من غير أهل السنة، تحتل تلقائياً دور الضحية حيناً و”الطليعة المقاتلة” أحياناً أخرى، وتستدرج تعاطفاً أكبر وتأييداً أوسع، سيما إن كان “المعتدون” من “الروافض” و”النصيريين” و”المجوس”، هنا، وهنا تحديداً، تصبح رايات “داعش”، هي “رايات الأمة”، وتنهمر لنصرتها، الدموع والأدعية، مدراراً... إذن، الموقف من داعش نسبي ومتحرك، ولا صلة له بما يثيره في خطاباته وما يقارفه في أعماله ويومياتهمن جرائم مروّعة، غير مسبوقة منذ صعود النازية... المسألة أساساً تتعلق بمن يقاتل “داعش” ومن يناصبه العداء، لكأننا أمام خلاف مندلع بين أهل البيت الواحد، الذي تحكمه قاعدة: “انا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب”.
هذه المناخات وحدها، وليست البيانات المنمقة التي تتحدث عن “التسامح” و”الإخاء الإسلامي” و”الأمة”، ومؤخر اً “المواطنة”، هي مصدر القلق المتأصل حيال هذه الحركات والجماعات، وهو قلق لا يضرب الحكومات المتسلطة ولا الديكتاتوريات وحدها دون سواها، بل وتراه مبثوثاً في نفوس وعقول مختلف تيارات الفكر والسياسة، بمن فيها تلك “الصديقة” او “المؤتلفة” مع هذه الجماعات، التي من حقها أن تتساءل عن حقيقة مواقف هذه الجماعات والحركات من قضايا الإرهاب والعنف والتطرف العنيف.