بقلم :عريب الرنتاوي
ثمة علاقة لا يمكن إنكارها، بين الهزائم الميدانية التي يُمنى بها تنظيم “داعش” في كل من سوريا والعراق من جهة، والازدياد الملحوظ في “عدد” و”نوعية” العمليات الانتحارية المؤلمة التي ينفذها التنظيم، ضد أهداف مدنية (واحياناً عسكرية)، وينجح من خلالها في تمزيق أحشاء المدن، وتحويل مئات المواطنين الأبرياء، إلى مزق وأشلاء متطايرة ... بعض المراقبين، خصوصاً من “خبراء” الحركات الإسلامية، ينظرون إلى هذه العمليات بوصفها مظهراً من مظاهر القوة ودلالة على فشل الكونية ضد الإرهاب، لكننا نميل إلى النظر إليها بوصفها دليلاً على قرب نهاية “داعش”.
ففيما كانت قوات الجيش العراقي وحلفاؤه من ميليشيات الحشد الشعبي والعشائري، تجوب الأنبار مستعيدة العديد من البلدات والمدن والقرى من سيطرة التنظيم، وبامتداد يصل شرقاً إلى أزيد من 500 كيلومتر وصولاً للحدود الأردنية – العراقية، كان “استشهاديو” التنظيم و”انغماسيوه”، يمزقون بأحزمتهم الناسفة وسياراتهم المفخخة، قلب العاصمة وغيرها من المدن والبلدات العراقية ... الجيش يواصل تقدمه صوب “العاصمة الأقدم” لداعش في الفلوجة، ويحرز نجاحات على محاور عديدة، وليس مستبعداً أبداً، أن يواصل التنظيم محاولاته اقتراف المزيد من الجرائم ضد أهداف مدنية ومواطنين أبرياء في بغداد وغيرها.
وعلى الضفة السورية من “دولة الخلافة”، تتواتر المعلومات والاستعدادات، عن قرب الإجهاز على التنظيم في عاصمتها الجديدة (الرقة)، وتحرز وحدات الحماية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية، تقدما يضعها على مسافة قصيرة من المدينة المختطفة منذ عامين آو أزيد قليلاً ... لكن التنظيم ينجح في إرسال سيارات مفخخة لنشر الموت في قلب طرطوس وجبلة، موقعاً مئات القتلى والجرحى، وفي مسعى لا يخفى على أحد، لاستعادة “الروح المعنوية المنهارة” لمقاتليه على جبهات ومحاور عدة، وفي عملية لا تخلو من الرسائل “المفخخة” لكل خصوم التنظيم، ولـ “الأخوة” الذين سيقلبون له ظهر المجن، ما أن تلوح في الأفق، بوادر هزيمته المحققة، وعلى أمثل إثارة فتنة مذهبية، بين أهل هذه المدن ومئات ألوف النازحين إليها هرباً من ويلات الحرب الدائرة في سوريا وعليها.
“داعش” ينهار ... ومعاركه الأخيرة أظهرت تآكل قدراته القتالية وروحه المعنوية كما يقول قادة المحاور من الجانب الآخر ... لم يعد ذلك التنظيم الذي “ينتصر بالرعب” ... صار يتعين عليه فرض “حظر التجوال” في مناطق سيطرته لمنع مقاتليه من الفرار ... صار يمنع المدنيين من مغادرة “أراضي الخلافة” لحاجته لدروع بشرية ... مئات “المجاهدين” أعدموا أو دفنوا أحياء لفرارهم من جبهات المواجهة ... عناصر النخبة في التنظيم يجري سحبها من الخطوط الأمامية، لضمان سلامتها، وربما العمل على تهريبها إلى ساحات “جهادية” جديدة (التنظيم سحب مقاتليه الأجانب من الفلوجة) .... التنظيم “البعبع” لم يعد كذلك على أية حال، وبشهادة من يقاتلونه من عراقيين وسوريين سواء بسواء.
من الأنبار التي تخوض آخر معارك خلاصها من قبضة الإرهاب ... إلى الرقة التي تنتظر بفارغ الصبر، لحظة الخلاص من “الخلافة” وراياتها السوداء ... وصولاً إلى سرت التي تؤكد التقارير بأنها على موعد قريب للخروج من قبضة “داعش” ... إلى معركة الموصل المؤجلة بقرار سياسي وليس عسكري ... تتهاوى قلاع الدولة الإرهابية وتُطوى صفحتها السوداء في تاريخ المشرق المعاصر.
وكلما اقترب التنظيم و”الخلافة” من خط النهاية، كلما ازدادت خطورته ... لم يعد لدى البغدادي سوى “قبضة” الانتحاريين والانغماسيين الذين يوفرهم لعمليات كتلك التي ضربت بغداد وعدن وطرطوس وجبلة ... هي “سكرات الموت”، وليست “عودة الروح” ... وسيكون التنظيم أكثر قسوة ولؤماً في استهداف ضحاياه من المدنيين ... القتل بالجملة هو الهدف بذاته.
ما يفعله البغدادي، يذكرني بحكاية رواها لي أحد أقرب المقربين من “أبو نضال – صبري البنا”، زعيم ما كان يعرف باسم “فتح – المجلس الثوري”، وفيها أن الرجل اتخذ بعض أخطر قرارات الاغتيال والتصفية، وهو في غرفة “العناية الفائقة”، لكأنه لا يريد الانتقال إلى الرفيق الأعلى، فيما بعض رفاق الأمس، خصوم اليوم، ما زالوا على قيد الحياة، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ... هكذا هو حال “عصابة الخلافة” اليوم، التي تعد أيامها الأخيرة، وتريد لنا أن نغرق في تعداد أرقام الضحايا من النساء والرجال.
لا يعني ذلك، أن خطر الإرهاب قد تلاشى، “الدولة “ ستنهار، أما الإرهاب فلديه فسحة أطول للبقاء والتنقل، زارعاً الموت والخراب في كل زاوية ... لا يعني ذلك أن حكاية هذه المنطقة، مع التطرف والإرهاب المتدثرين بالدين، قد أكملت فصلها الأخير، لكن ورقة داعش الذابلة، توشك على السقوط، بانتظار موجة جديدة من المواجهة، مع الإرهاب ذاته، بأسماء جديدة وأساليب جديدة، فكل العوامل التي أخرجت القاعدة وداعش إلى الحياة، ما زالت كامنة في تربتنا وهوائنا.