عريب الرنتاوي
تعيش السلطة الفلسطينية هذه الأيام، واحدة من أسوأ مراحل حياتها منذ أن رأت النور قبل أزيد من ربع قرن، و "من آياتها": شعبية هابطة وانفصال يتعمق بينها وبين شعبها...أزمة مالية واقتصادية خانقة، ستعيدها إلى سياسة تأخير رواتب جيوش الموظفين والمتقاعدين من مدنيين وعسكريين أو دفعها بالتقسيط غير المريح ... انسداد سياسي لم تفلح لا الإدارة الأمريكية الجديدة ولا الحكومة الإسرائيلية الجديدة في فتح أية ثغرة جدية في جدرانه ... انقسام بين شطري الوطن المحتل والمحاصر، وأزمة ثقة مع حركة حماس "المنتشية" بنتائج وتداعيات "انتفاضة القدس وسيفها" ... انتقادات محلية ودولية غير مسبوقة، في ملف حقوق الانسان والحوكمة غير الرشيدة، تنفر منها مجتمع المانحين، حيث تتقلص المساعدات الأوروبية، وتتلاشى المساعدات العربية، ولكل طرف أسبابه المغايرة لأسباب الآخر بالطبع.
لا أفق في المدى المنظور، أقله في السنوات الثلاث أو الأربع لإدارة بايدن، لترجمة "حل الدولتين"، بايدن وفريقه يكتفيان بإعطاء الفلسطينيين "من طرف اللسان حلاوة"، فيما تحجم الإدارة عن فتح الملفات الكبرى والرئيسة، وتعتمد سياسة إطفاء بؤر التوتر والانفجار واحتواء الأزمات وإدارتها، ودائماً من ضمن رؤية استراتيجية أمريكية أوسع للتعامل مع مختلف أزمات الإقليم، وليس القضية الفلسطينية وحدها ...أما الحد الأقصى لما يمكن أن تصل إليه جهودها في السنوات القادمة: تهدئة في غزة بالحد الأدنى من مستلزماتها، و"إجراءات بناء ثقة" بين رام الله وتل أبيب، تغرف من نظرية "السلام الاقتصادي" لنتنياهو، لا أكثر ولا أقل.
السلطة تتشبث بحبال الوهم المنسوجة بخيوط التصريحات الواهية الصادرة عن بعض العواصم العربية والدولية عن التزام بـ"حل الدولتين"، وهي تفعل ذلك، وتواظب عليه، حتى وهي تدرك أن هذه التعهدات لا تساوي الحبر الذي تكتب به، وأن لهذه العواصم أسباباً أخرى، تدفعها لاجترار الحديث المتكرر منذ ثلاثة عقود: لا نية لأحد لطرح “Plan B” ما لم يتقدم الفلسطينيون أولاً لطرحها، إن كانت لديهم مثل هذه الخطة أصلاً... وأن أولوية هذه الأطراف تكاد تنحصر، كما أولوية واشنطن، بحفظ الهدوء والتهدئة، ومنع انهيارات لاحقة، تفتح باباً لكل المجاهيل والمغاليق ... لكن السلطة وهي تفعل ذلك، إنما تتصرف كما الغريق الذي يتعلق بقشة، فهي ترجئ الإجابة على الأسئلة والتحديات الكبرى، بل وتعزف عن طرح الأسئلة الصحيحة، على أمل أن يكون هناك توقيتاً أفضل لطرحها، علماً بأن كل أعمى وبصير، يدرك تمام الإدراك، بأن الزمن الفلسطيني ينقضي في فراغ وإرجاء، فيما الزمن الإسرائيلي حافل بالأسرلة والتهويد والضم والزحف الاستيطاني والاعتقالات والعدوانات، وأن إسرائيل على "عنصريتها الطافحة" تنجح في مواصلة التطبيع، وتخترق أفريقيا وتحظى بعضوية اتحادها، وتسجل مكاسب وإنجازات غير مسبوقة، وتلكم مفارقة كاشفة لعجزنا، فلسطينيين ومن تبقى من العرب، على الاتيان بأي حراك ذي مغزى.
حكومة لبيد – بينت تعيد انتاج سيرة و"تكتيكات" الحكومات الإسرائيلية السابقة لنتنياهو ... كلام أقل حدة واستفزازاً مصحوباً بإجراءات أشد شراسة على الأرض... مثال ذلك ما يجري في القدس والمسجد الأقصى، والبوح بنيتها منح "الحق بالصلاة" لليهود في الحرم الشريف، وسياسة هدم المنازل وتشريد السكان، والأعين المتسمرة حول "المنطقة ج" التي يؤمن رئيسها اليميني المتطرف نفتالي بينت، بأولوية ضمها ونشر الاستيطان اليهودي على جبالها وسفوحها، الأمر الذي كان سبباً جوهرياً في اعتراضه على "صفقة القرن" باعتبارها مبادرة "سخية" مع الفلسطينيين، دع عنك تواتر وتضاعف عمليات السطو على أموال المقاصة، التي تترك السلطة نهباً للعجز المبرح في الميزانية، رازحةً تحت عبء مديونية لن تقوى على سدادها.
لا ندري علامَ تراهن السلطة، وما الذي تنتظره، فلا أحد من أركانها يخرج علينا بقراءة للمرحلة المقبلة، أو بتصور لكيفية مجابهة هذه التحديات ... السلطة تغرق في بحر من التحديات اليومية، من تأمين الرواتب حتى إدامة عمل مؤسساتها، فيما "أركان المشروع الوطني الأربعة": الدولة والعودة والقدس وتقرير المصير، خارج إطار البحث الجدي... لا ندري كيف سيكون حال السلطة، بعد انقضاء "لحظة الانفراج والفرج" التي جاءت بمجيء بايدن إلى البيت الأبيض، وكيف ستتصرف وعلى ماذا تراهن، إن عاد ترامب أو من هو على شاكلته أو "من قماشته" إلى البيت الأبيض، أو ظلت الإدارات الحالية والقادمة، واقفة على سلم أولوياتها الراهن، حيث تحتل فلسطين والشرق الأوسط برمته، مكانة على أسفل درجات هذا السلم، إن كان لها موقعاً عليه بالأساس.
لسنا هنا بصدد الحديث عن "خطة ب" أو "خطة ج"، فهذا موضع تباين وانقسام إضافي بين الفلسطينيين، لكننا نود أن نلفت إلى حقيقة ساطعة كسطوع الشمس في رابعة النهار، ومؤدّاها: أنه أياً كان تصور السلطة أو غيرها للمشروع الوطني الفلسطيني، فإن الأمر الذي لا مندوحة عنه، أنها ستخفق في ترجمته أو دفعه للأمام، من دون خطة بديلة، متحركة، نشطة، فعّالة، مُقاوِمة"، كفيلة برفع كلفة الاحتلال، وحفظ الزخم المترتب على "انتفاضة القدس وسيفها" وإبقاء فلسطين في الموقع المتقدم الذي استحدثته "الانتفاضة والسيف معاً".
السكون والانتظار و"نظام العمل بالمياومة"، ستشجع كافة الأطراف، بالذات حكومة بينت وإدارة بايدن والعواصم العربية والأوروبية ذات الصلة، على صرف النظر عن فلسطين وملفاتها المعقدة والشائكة، هذه الأطراف لديها ما يصرفها عن "قضيتنا المركزية الأولى"، ومن تبقى من عواصم عربية حليفة وصديقة، لديها ما يكفيها من أولويات ضاغطة، في اقتصادها وأمنها واستقرارها وإدارة علاقاتها بشعوبها ... كرة النار يجب أن تبدأ بالتدرج من فلسطين، وبغير ذلك سنكون أمام كرة ثلج كبرى تستقر فوق الجسد الفلسطيني، مُخلفةً حالة من الجمود والانجماد، فيما الطرف الآخر، يواصل سعيه التوسعي – الإيديولوجي المحموم للانقضاض على ما تبقى من أرض وإنسان وحقوق ومقدسات ومشروع.
لست بصدد اقتراح مشروع وطني بديل، بعد أن سُدّت أفاق المشروع الذي بدأ بالتبلور قبل أكثر من 45 عاماً، مشروع السلطة و"حل الدولتين"، فتلكم قضية مثيرة للخلاف كما أشرنا، بيد أنني ألفت إلى أن مشروعاً في هذا الإطار، أو حتى دونه، لا يمكن إنجازه إن بقي الحال الفلسطيني على حاله، وظل الأداء الفلسطيني على ضعفه وتهافته، وظل المشهد الفلسطيني على انقساماته وترهله وبيروقراطيته وفساده وسلطويته ... هذا ليس خياراً، بل هو طريق مختصر لـ"تيه فلسطيني جديد"، وللبحث صلة.