بقلم - عريب الرنتاوي
تمضي السيدة ريما خلف إلى منزلها، فتنام ملء جفنيها، فما أجمل النوم مع راحة النفس والضمير! ... ما أجمل “استراحة المحارب”! بعد أن يكون صال وجال في ميادين إحقاق الحق والانتصار للعدالة، وقول كلمة الحق في وجه “نظام جائر”... لكأننا أمام “غزال بشّر بزلزال”، والزلزال الذي حركت السيدة خلف صفائحه الراكدة، أغلق مقياس ريختر على جميع تدرجاته، وكشف المستور عن حفلة النفاق والتكاذب الدولي، ووفر لنا فرصة إضافية للتعرف على الكيفية التي يدار بها المجتمع الدولي، وسطوة القوة الفاعلة والممولة وجماعات الضغط وكثير مما كنا نعرف ولا نعرف.
والشكر مستحق للسيدة التي نفاخر بها، قبل المنصب الرفيع وبالأخص بعده، فقد أعطتنا والقائمين علينا، درساً بليغاً في “الرجولة” و”الفروسية”، وأعادت إلى ليل هذه المنطقة البهيم، قبساً من الأمل والثقة بالمستقبل ... علمتنا أن “الرجولة” ليست فعلاً ذكورياً حصراً، وأن زمن “الفروسية” و”النبل” لمّا ينقض بعد.
ونُطمئن السيدة خلف، بأن تقريرها الذي تآمر كثيرون على طمسه وإخفائه وإنزاله عن مواقع المنظمة الدولية، قد انتشر انتشار في الهشيم، وأن الوعي به وبمفرداته، قد بات عميماً، وأنه سيحدث ارتدادات أوسع وأقوى تأثيراً، مما لو “رقد بسلام” على المواقع الجامدة للمنظمة الدولية ... نبشرها بأن ملايين الشرفاء في العالم، والمناضلين في سبيل حرية الشعوب واستقلالها وكرامتها، والمحاربين بقوة ومبدئية ضد العنصرية والتمييز العنصري، سيتابعون العمل على “توصياته”، وسيوظفون الحقائق العلمية والموضوعية التي توصل إليها، بشغف نادر، مستمدين من صلابتك المبدئية وشجاعتك الاستثنائية، الإلهام و”قوة النموذج”.
ليست المرة الأولى التي تفعلها الأمم المتحدة وأمينها العام الجديد مع السيدة خلف والإسكوا، قبل ثلاثة أشهر، كانت “الأوامر” قد صدرت بسحب ومصادرة تقرير آخر بعنوان “الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل”، ودائماً تحت ضغط إسرائيل والمتنفذين العرب من أصحاب الأرصدة الفلكية ... فبئساً لهكذا منتظم يتحول شيئاً فشيئاً إلى نموذج مكبر عن “جامعة الدول العربية”، وسحقاً لكل الادعاءات والمدعين الذين طالما أمطرونا بوابل المواعظ والدروس عن شرعة حقوق الانسان والعدالة وتقرير المصير، وغيرها من مُثل وقيم، قيل لنا زوراً أن المنظمة الدولية قامت على أساسها وتسهر على رعايتها.
وليست المرة الأولى التي تتخذ فيها الأمم المتحدة مواقف وخطوات تجهز على البقية الباقية من سمعتها ونفوذها الأخلاقي وصدقيتها في نظر الرأي العام العالمي ... فهل يمكن لذي عقل سليم أن يتخيل في أكثر أحلامه (اقرأ كوابيسه) أن تحتل إسرائيل (آخر استعمار على وجه البسيطة) منصب نائب رئيس لجنة تصفية الاستعمار في الأمم المتحدة؟ ... وهل يخطر ببال أحد أن تتولى دولة الإرهاب المنظم، رئاسة اللجنة السادسة في الأمم المتحدة (اللجنة القانونية) وللمرة الأولى منذ قيامها على أنقاض شعب فلسطين، وهي اللجنة المولجة بمحاربة الإرهاب والإشراف على تنفيذ القانون الدولي، ورعاية المدنيين في زمن الحرب؟
هل يعقل أن يرضخ الأمين العام السابق للأمم المتحدة (حتى لا نلقي بكل الأوزار على الأمين العام الجديد وحده دون سواه) لضغوط المندوبة الأمريكية سامنتا باور لسحب اسم إسرائيل من القائمة السوداء للدول التي تقتل الأطفال؟
لم تساورنا يوماً الشكوك في ضعف وتهافت هذا المنبر الدولي وعجزه عن مساعدة الشعوب الضعيفة والمستضعفة، فنحن أبناء قضية تعود لزمن عصبة الأمم، وتفاقمت في ظل الأمم المتحدة، ولدينا أرشيف متراكم من القرارات الدولية في كافة المجالات، والتي ظلت جميعها حبراً على ورق ... نحن أبناء أطول “نكبة” في تاريخ البشرية الحديث، وقفت حيالها الأمم المتحدة، عاجزة مترددة جبانة، غير قادرة على إنصاف المظلوم أو ردّ الباغي ... لدينا ذاكرة جمعيه حافلة بالصورة البائسة، ولعل أكثرها مدعاة للأسى والغضب، تلك المرتبطة بشعار الأمم المتحدة المرسوم على خيام اللاجئين وأكياس الطحين التي يتلقونها ودفاتر التلاميذ في مدارس “الأونروا” التي تعاقبت عليها أربعة أجيال من أبناء شعب فلسطين.
لكن أن يصل استهتار المنظمة الدولية بالقيم والمبادئ والحقوق، وعلى أرفع مستوى، إلى هذا المستوى الوضيع من التآمر والتواطؤ والخضوع لإرادة المتنفذين، فذلك أمر يرقى إلى مستوى الفضيحة، التي تستحق الاعتذار من الأمين العام، واستقالته هو من منصبه، بدل قبوله استقالة ريما خلف.
تحية إلى ريما خلف، أينما كانت وتكون، وتحية لكل الشرفاء في هذا العالم، الذين ما زالوا يمسكون بجمر الأخلاق والقيم والمبادئ، بعد أن حولها الساسة والقوى المتنفذة إلى سلع مدرجة في بورصات هذا العصر، أو بالأحرى، أسواق النخاسة الجديدة.