وفرت انتخابات 2020 مادة غزيرة يمكن من خلالها قياس حجم المأزق الذي يعتصر العمل الحزبي في الأردن، فمن أصل 48 حزباً مسجلاً، قاطع الانتخابات رسمياً، حزب واحد: حزب الشراكة والإنقاذ...وتقدم 41 حزباً بقوائم انتخابية، تستجيب لشروط وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية المتضمنة في "نظام المساهمة المالية" لرفع حصة الحزب من التمويل العمومي...سبعة أحزاب، لم تستطع تقديم ستة مرشحين في ثلاث دوائر انتخابية.
397 مترشحا حزبياً تقدموا للانتخابات، شكلوا ما نسبته 24% من إجمالي المترشحين، من بينهم 97 مرشحة، شكلن 24% من مرشحي الأحزاب وما يقترب من 27% من إجمالي عدد المرشحات، الزيادة في عدد القوائم الحزبية بلغت 30% في حين بلغت الزيادة بأعداد المرشحين الحزبين 35% مقارنة بانتخابات 2016.
الإقبال الكثيف على الترشح، مرده بالنسبة لكثيرٍ من الأحزاب (ليس جميعها بالطبع) النظام المالي الذي أقرته مؤخراً وزارة الشؤون السياسية والبرلمانية، والذي وضع معايير انتخابية لرفع قيمة التمويل، منها أن يشارك الحزب بستة مرشحين على الأقل، في ثلاث دوائر انتخابية، مع حوافز أخرى للأحزاب التي ترشح شباباً ونساء، وللأحزاب التي تتحصل على مقاعد في المجلس...كثرة من الأحزاب المشاركة، كانت تعرف مسبقاً أن نتائجها ستكون كارثية، لكنها مع ذلك أقدمت عليها، فيما سُجّل غياب عدد كبير من "الأمناء العامين" عن قوائم المرشحين، ربما حفظاً لماء الوجه.
الإقبال الكثيف على الترشح، قابله إخفاق كئيب لجهة النتائج التي تحصّلت عليها الأحزاب، بالمعنى النسبي والمطلق، وسواء لجهة عدد المقاعد الحزبية في البرلمان الـ 19 أو لجهة عدد الأصوات الإجمالية التي تحصّل عليها الحزبيون، من فاز منهم ومن لم يحالفه الحظ، في الوصول إلى "العبدلي".
حزب جبهة العمل الإسلامي، أقوى أحزاب المعارضة، هبط تمثيله في البرلمان من 15 مقعداً في المجلس السابق، إلى 10 مقاعد في المجلس الحالي، أما الدلالة الأهم على تراجع كتلته التصويتية، فيتجلى في انخفاض إجمالي الأصوات التي تحصل من 158 ألف صوت (11 بالمئة) من إجمالي عدد المقترعين في انتخابات 2016، إلى 83 ألف صوت (6 بالمئة) في انتخابات 2020.
وما دمنا بصدد الحديث عن التيار الإسلامي، فقد قدم حزب الوسط الإسلامي 21 مرشحاً في 12 دائرة انتخابية معتمداً تكتيكاً انتخابياً يقوم على المزاوجة بين الهويتين الحزبية والعشائرية للمترشحين، وبلغ مجموع الأصوات التي حصل عليها الحزب، حوالي 55 ألف (4%) من مجموع أصوات المقترعين...حزب زمزم الذي لا يصنف نفسه في عداد "التيار الإسلامي"، مع أن غالبية عناصره القيادية الرئيسة، خارجة من رحمه، عجز عن تشكيل قائمة حزبية هذه المرة، بخلاف انتخابات 2016، وخاض الانتخابات بـ 17 مرشحاً، لم يفز منهم أحد.
النتائج المؤلمة، كانت من نصيب التيار "القومي – اليساري أيضاً، الحزب الديمقراطي الاجتماعي، والذي قدم 9 مرشحين حصل على قرابة 5 آلاف صوتاً بنسبة 0,36%. أما الأحزاب اليسارية الثلاثة الأخرى (حشد، الشيوعي والوحدة)، فقد قدمت 25 مرشحاً وحصدت مجتمعةً على 6 آلاف صوت بنسبة 0,44% من مجموع المقترعين. وشاركت الأحزاب القومية (البعثان والحركة القومية) بـ 23 مرشحاً، وحصدت 9 آلاف صوتاً بنسبة 0,62% من أصوات المقترعين، ليصبح مجموع الأصوات التي حققتها الأحزاب القومية واليسارية أقل من 1.5% من إجمالي عدد المقترعين.
التيار المدني الذي حقق نجاحاً "واعداً" في انتخابات 2016 من خلال قائمة "معاً"، شهد خسارة وتفككاً في انتخابات 2020، فقائمة "معاً" حصلت على أقل من 4 آلاف صوتاً بنسبة أقل من 0.3%، إضافة إلى أن هناك العديد من شخصيات التيار خاضت الانتخابات في قوائم أخرى، ولم يحالفها الحظ، علاوة على أن عدد أصوات أنصار هذا التيار قد سجلت تراجعاً مقارنة بانتخابات 2016، ونجح مرشح واحد عن قائمة "قادمون".
النتيجة: أن البرلمان التاسع عشر، سيجلس على مقاعده 17-18 حزبياً أو نصيراً، من أصل 130 مقعداً (13-14 بالمئة)، نجحوا على "تذكرة" الحزب: 10نواب لحزب جبهة العمل الإسلامي، و5 نواب لحزب الوسط الاسلامي (هم يتحدثون عن 6 نواب)، ونائب واحد لكل من الجبهة الأردنية الموحدة وحزب الوفاء الوطني، وقد لا ينجح أي منها، في الوصول إلى الحد الأدنى المطلوب لتشكيل كتلة برلمانية وفقاً لشرط الـ "10 بالمئة" المعتمد لتشكيل الكتلة النيابية في النظام الداخلي للمجلس.
(2) "المنطوق به" و"المسكوت عنه"
ليست المشكلة فيي "سرديات" الأحزاب وروايتها لجملة الأسباب والعوامل، المحفوظة غيباً، والتي تضافرت في صنع "هزيمتها النكراء" في الانتخابات النيابية الأخيرة...المشكلة الأكبر، تتجلى في التغاضي عن الأسباب والعوامل الكامنة في دواخل هذه الأحزاب، والتي تضطلع، في ظني، بالقسط الرئيس من المسؤولية عن الفشل الذي منيت به في انتخابات 2020.
"المنطوق به" على ألسنة القادة الحزبيين، معظمهم على الأقل، ومن شتى المشارب السياسية والفكرية والاجتماعية، يعلق أسباب الفشل على مشجب الحكومة والأجهزة الأمنية والبنية التشريعية، ونظرة الدولة للأحزاب وغياب الإرادة السياسة لاستحداث الاختراق المطلوب على مسار "الديمقراطية القائمة على التعددية الحزبية"...بعضهم، الأكثر حماسة وميلاً لـ"التهويل" يعيد المسألة إلى حقبة الأحكام العرفية وقوانين الدفاع والطوارئ، مع أنه انقضت على هذه الحقبة ثلاثة عقود، كانت كافية من وجهة نظري، لاستنهاض الحزب وتعزيز دوره ومكانته، وتوسيع قواعده الشعبية والجماهرية، لك
ن ذلك لا يمنعنا من القول أن ل ما تتقدم به السرديات الحزبية في هذا المجال، صحيح بهذا القدر أو ذاك، ومسؤول إلى هذه الدرجة أو تلك عن حالة الإعاقة التي يعيشها العمل الحزبي.
"المسكوت عنه"، من قبل معظم أحزابنا هو جملة الأسباب المتعلقة ببنية الحزب السياسي وبرنامجه، وقدرته على التجدد و"التشبيب" و"دمقرطة" الحياة الداخلية للحزب السياسي، والتناوب على القيادة، واتقانه لمهارات التواصل مع الشباب والنساء، وامتلاكه لأدوات العصر الحديثة في التواصل مع القاعدة الجماهيرية، سيما الشبابية منها.
صحيح أن بعض الأحزاب، والائتلافات الحزبية، تأتي في تصريحاتها وبياناتها على ذكر "الأسباب الداخلية" لتعثر التجربة الحزبية الأردنية، لكن الصحيح كذلك، أنها تمر على هذه الأسباب مرور الكرام، وغالباً من باب رفع العتب، ولكيلا تتهم بأنها تعيش "حالة إنكار"...وفي مقابل "التهوين" من أثر "العوامل الذاتية" في انتاج وإعادة انتاج أزمة العمل الحزبي، نراها تميل لـ “التهويل" بدور "العوامل الموضوعية"، وتلقي على كاهلها بكامل المسؤولية عن المأزق الذي آلت إليه التجربة الحزبية الأردنية.
لم يعد جائزاً، بعد انكشاف "أوزان" كثيرٍ من الأحزاب، أن يظل الحال على هذا المنوال، وأن تستمر "حالة الانكار" أو البحث عن "شمّاعات"، وكنّا نأمل أن يبادر عدد من الأمناء العامين لتقديم استقالاتهم لقواعدهم الحزبية، بوصفهم المسؤولين عن الفشل، سيما أولئك الذي أمضوا سنوات (والبعض عقود) في مناصبهم، وقادوا أحزابهم من فشل إلى فشل، تماماً مثلما يحدث في مختلف الديمقراطيات، التي لا نجد حزباً أردنياً واحداً، يكف عن تمجيدها وإطلاق الوعود الرنانة بالعمل على إلحاق الأردن بركبها.