ليست قصاصة الورق التي بعث بها "المنسق" الإسرائيلي إلى "المنسق" الفلسطيني، هي من أعاد السلطة عن قراراتها بـ “تعليق" العمل بالاتفاقات المبرمة، و"تجميد" التنسيق الأمني و"الامتناع" عن تسلم أموال المقاصة ... قرار السلطة، المفاجئ، والانفرادي، يأتي حلقة في سلسلة من التحركات الإقليمية والدولية، المتزامنة والمتوازية، والمنسقة إلى حد كبير، وفي سياق استعداد السلطة والمنطقة، لاستقبال إدارة أمريكية ديمقراطية، بزعامة جو بايدن.
قصاصة الورق المذكورة، والتي أسمتها السلطة رسالة التزامات، وعدّتها "نصراً كبيراً" للشعب الفلسطيني، لم تكن أكثر من "فرشة اسفنج بالية" قدمتها سرائيل للسلطة لكي تسقط فوقها حال قررت الإلقاء بنفسها عن قمة الشجرة التي صعدت إليها بعد السابع عشر من أيار الفائت.. فلا الرسالة، ولا المُرسل، حملت مواقف سياسية ذات مغزى، يمكن أن يستشف منها رائحة "التزام" إسرائيلي بالاتفاقات السابقة، كل ما في الأمر، أن "القنوات المالية" عادت سالكة في الاتجاهين، وعادت معها الأمور من تنسيق أمني وغيره إلى ما كانت عليه، حتى أننا لم نعرف ما إذا كانت السلطة ستتسلم أموال المقاصة، كاملة أم منقوصة، بعد أن تقتطع إسرائيل منها، ما يعادل رواتب الشهداء والأسرى، وهي القضية التي كانت موضع خلاف، والسبب الكامن وراء "حرد" السلطة عن تسلم أموال الضرائب الفلسطينية.
القرار الفلسطيني بالعودة عن "التجميد" و"التعليق"، جاء بنتيجة وساطات أوروبية، نرويجية على نحو خاص كما يُقال، بعد أن لاحت في الأفق الأمريكي بوادر وإرهاصات لنهاية حقبة ترامب في #البيت_الأبيض، ومن ضمن استعدادات وتحضيرات لـ"استنفاذ فرصة بايدن"، ومن منطلق قناعة عميقة تأسست لدى بعض الدوائر الأوروبية والعربية، أنه ما لم يجر استحداث اختراق على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي في سنوات بايدن الأربع، فعلى العالم، أن يودع حل_الدولتين" ومرجعيات عملية_السلام، والاتفاقات المسبقة، وكل ما ترتب عليها.
عمان لم تكن بعيدة عن هذه الأجواء، والعاصمة الأردنية من بين مختلف "عواصم الاعتدال العربية"، هي الأقرب إلى رام_الله، وهي وحدها، وأكثر من غيرها، من بمقدورها أن تتحدث مع الجانب الفلسطيني من دون حساسيات وفي شتى الموضوعات، الاتصالات على مختلف المستويات لا تنقطع، وآخر فصولها زيارة وزير خارجية فلسطين لعمان قبل "الخطوة" والقمة" بساعات قلائل... لكن المفارقة أن طريق عمان – تل_أبيب، لم تعد سالكة كما كانت عليه من قبل، وليست ثمة من كيمياء بين القيادتين الأردنية والإسرائيلية، تمكن عمان من القيام بدور فاعل بين الجانبين ... في هذا السياق، يمكن قراءة قمة أبو ظبي الثلاثية، حيث بمقدور الأردن أن يتولى الحديث الجانب الفلسطيني، فيما ستضطلع الإمارات و البحرين بالحديث مع الجانب الإسرائيلي، فهما الأقرب إلى تل أبيب، برغم تباعدهما جغرافياً... التزامن بين الخطوة الفلسطينية "المفاجئة" والقمة الثلاثية، ليس صدفة أبداً، بدلالة أن السلطة سارعت إلى إقرار عودة سفيريها للمنامة وأبو ظبي، وربما بوساطة أردنية، فور انتهاء القمة، ويقال أن سفير فلسطين في المنامة عاد إليها قبل الإعلان عن قرار عودته على أية حال، حيث تولى تلقي التعازي برحيل الدكتور صائب عريقات في مقر السفارة الفلسطينية في العاصمة البحرينية.
أين السعودية و مصر؟
أين السعودية من هذا الحراك، ولماذا لم تشارك في "القمة الثلاثية"؟ ... ولماذا اقتصرت القمة على دول تحتفظ بعلاقات رسمية وعلنية مع إسرائيل؟ وهل يمكن النظر إلى "الغياب" السعودي عن هذا الحراك، بوصفه ضرباً من التريث بانتظار استنفاذ ما يمكن لترامب وإدارته أن يفعلاه على "المسار الإيراني" في "ربع الساعة الأخير"، حتى لا تثير حفيظة ترامب الذي يزداد سلوكه طيشاً ورعونة مع اقتراب استحقاق العشرين من يناير القادم؟ ... هل تمارس السعودية دور "القيادة من الخلف" أم أنها تفضل كعادتها، الاستمهال قليلاً قبل استحداث الاستدارة المطلوبة؟ ... هل يمكن النظر لانخراط البحرين في هذا الحراك، بوصفه تعبيراً عن الرضى السعودي، ورغبةً في مواكبته؟
ثم، أين الركن الآخر في "معادلة الاعتدال العربي"، وهل غابت مصر عن "حفل الاستعداد والتحضيرات" لمقدم بايدن الذي بدأ في رام الله وعمان وأبو ظبي على نحو متزامن؟ ... هل هناك تنسيق مصري مع أركان القمة الثلاثية في الموضوع الفلسطيني؟ ... وهل يمكن النظر إلى "القرار المفاجئ" الذي اتخذته القاهرة باستدعاء الفصائل إليها، بوصفه عملاً منسقاً مع دول هذه المجموعة، أم أن القاهرة كانت "خارج السمع"؟ ... إن كانت القاهرة جزءاً من هذا الحراك المفضي لتمهيد الطريق لإنعاش المسار التفاوضي الفلسطيني – الإسرائيلي برعاية بايدن، فما المغزى من دعوة الفصائل إلى القاهرة، وهل كانت القيادة المصرية، صاحبة الخبرة الطويلة في تدبير الشأن الفلسطيني، تعتقد أن ثمة فرصاً لنجاح هذه المحاولة في ضوء المعطيات الجديدة، أم أنها كانت تتصرف بدوافع أخرى، وما هي على وجه التحديد؟
السلطة في لحظة انتشاء
السلطة لفلسطينية تعيش لحظة انتشاء: فهي تقترب من الخروج من عنق زجاجة ضائقتها المالية: أموال المقاصة اليوم، وقريباً إعادة ضخ المساعدات الأمريكية ... وهي على وشك أن تعود لحاضنتها العربية (معسكر الاعتدال على اتساعه)، وبراغميتها تدفعها للانتقال من "مقاومة التطبيع" إلى اقتراح "توظيفه"، وهي سعيدة بفوز بايدن وما يصدر عن إدارته الانتقالية من تلميحات وتصريحات، وهي دوماً منتشية بما تقدمه أوروبا من حضانة سياسية ومالية دافئة للسلطة، بالذات بعد قراراتها الأخيرة.
من يحتاج لحماس والجهاد والفصائل في ظروف كهذه؟ ... ولماذا الاستغراق في ملف المصالحة المكبل لحركتها، سيما وأن ثمة فرصة لاستئناف مسار المفاوضات من جديد، والعودة بأوضاعها ليس إلى ما قبل أيار 2020 مع إسرائيل، بل إلى ما قبل يناير 2016، حين جاء ترامب وفريقه، بمنظور جديد للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وضع السلطة ومشروعها وقيادتها، تحت مقصلة أقصى اليمين في الولايات المتحدة وإسرائيل سواء بسواء.
السلطة اختارت ألا تخرج من صندوق أوسلو برغم ضيقه المتناهي، وكل حديث عن "استراتيجية جديدة" و"مرحلة جديدة" لم يكن سوى "تقطيع للوقت" بانتظار حدوث تغيير في البيت الأبيض...أما وقد حصل ما كان يُنتظر ويُشتهى، فليس ثمة ما يمنع من "فعل المزيد من الشيء ذاته"، والمضي في استراتيجية "التفاوض والانتظار"، على أمل استنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا المشروع الوطني الفلسطيني ومُزقه.
لن نسمع بعد اليوم، أحاديث ضافية عن "الوحدة الوطنية" و"المقاومة الشعبية" و"المقاطعة" و"حملات رفض التطبيع"، وستعود لغة الشروط المسبقة، والآمرة، لتتسلل إلى خطاب السلطة وهي تتحدث عن الحوار والمصالحة...وستعود لغة التكفير والتخوين لتهيمن على خطاب حماس وحلفائها من الفصائل ... وسيدخل الانقسام الفلسطيني في نفق جديد، قبل أن يغادر نفقه القديم.
في الصيف ضيّعت اللبن
السلطة تدرك، أنها إذ تعاود السير على الطريق ذاته، فإنها لن تحصد ما تشتهيه من ثمرات، بما فيها تلك التي عرضت عليها في محطات سابقة من التفاوض المديد والمرير ... وضع السلطة، ومن خلفها الوضع العربي، هبط منذ زمن عن "سقف المبادرة العربية"، وستجد السلطة أن حاضنتها العربية "معسكر الاعتدال" بعد انطلاق قطار التطبيع، ليس هو المعسكر ذاته، الذي يردد ما كان يقوله الفلسطينيون ويطالب بما يطالبون به ... ستجد السلطة، أن سيوف الأشقاء أشد مضاءً عليها هذه المرة، وهي التي عادت إليهم "عودة الابن الضال"، ومن دون قيد أو شرط.
لسنا من أنصار إدارة الظهر للجماعة العربية ولا للمجتمع الدولي، ولسنا ممن يحبذون هجاء المسارات السياسية والتفاوضية، بيد أننا لسنا من أنصار الارتهان إليها، واعتبارها مبتدأ الجملة الفلسطينية وخبرها، ولسنا من أنصار وضع كل الأوراق في "سلة واحدة"، ولا نجد ما يبرر أخذ قرارات المواجهة بإجماع الفلسطينيين، وخرقها والتجاوز عليها، بقرار فردي منفرد، اتخذ خلف أبواب مغلقة، من وراء ظهر فتح "الحزب الحاكم"، والمنظمة، الممثل الشرعي الوحيد ... هذه ليست سياسة، هذه ليست إدارة، وهذه ليست قيادة.
ولا ندري ما الذي ستقوله القيادة الفلسطينية، حين تكتشف أن أحلامها ورهاناتها، ستصطدم بصخرة التعنت اليمني الإسرائيلي، وأن إسرائيل ليستأبداً بوارد الحد من شهيتها التوسعية، وأن مشروع "إسرائيل الكبرى" ماض في طريقه للتنفيذ العملي، وأن مواقف إسرائيل الفعلية لا تؤخذ من رسالة هزيلة وقعها ضابط عابر، بل من أنياب جرافاتها الاستيطانية، التي ما زالت تمزق الأرض الفلسطيني، وتحيل المجتمع الفلسطيني إلى معازل وكانتونات.
عندها، ما الذي ستقوله القيادة لشعبها، ومن ذا الذي سيصغي لنداءات الوحدة والمصالحة والمقاومة والمقاطعة؟ ... عندها ستجد من سيقول لها: "في الصيف ضيّعت اللبن" ... لكن من أسف، يبدو أن "القوم" لا يبالون كثيراً بما سيكون عليه حالهم بعد أربع سنوات، فهم مشغولون بيومهم لا بغدهم، بلحظتهم الراهنة لا بمستقبل شعبهم وقضيته، ومن الواضح تماماً أنهم قرروا السير على الطريق ذاته، حتى وإن قادهم إلى "صفقة القرن"، وإن في صيغة دبلوماسية ملطفة، لا أكثر ولا أقل.