بين الخامس والعشرين من يوليو في تونس، والخامس عشر من أغسطس في كابل، مسافة قصيرة في الزمن، بيد أنها مديدة وعميقة لجهة تأثيراتها وانعكاساتها على حركات الإسلام السياسي والمسلح في عموم المنطقة والعالم.. "ثلاثة أسابيع هزّت عوالم الإسلاميين" من مختلف المدارس وفي شتى الأقطار، ودفعت بهم سريعاً للمراجعة واستخلاص الدروس، الأمر الذي سيكون له أكبر الأثر على أمن الإقليم واستقراره، وسيقرر بصورة أو بأخرى، شكل وطبيعة العلاقات بين الإسلاميين بعضهم ببعض، وبينهم جميعا من جهة وحكومات دولهم من جهة ثانية.
لقد أعفتني مقالة مهمة حملت توقيع هارون زيلين من معهد واشنطن وعنوانها "شماتة الجهاديين بحركة النهضة في تونس"، من عناء تتبع ما قاله الجهاديون بالحدث التونسي، وما توصلوا إليه من خلاصات ونتائج، فقد تتبع الباحث مواقف "شيوخ الجهاد وحركاته" في عدة أقطار... على أنني سأجد نفسي مُلزماً باستكمال ما بدأه في مجالين اثنين: الأول؛ مواقف الجماعات الإخوانية من الحدث التونسي، وهي التي ظلت خارج اهتمام المقالة.. والثاني؛ تعقب ما قاله هؤلاء في الحدث الأفغاني الذي سيداهمنا بعد أسابيع ثلاثة ويأخذنا جميعاً، حكومات واستخبارات ومراقبين، على حين غرة.
مقابل ما وصفه زيلين بشعور "الشماتة" بالإحراج الذي تعرضت له حركة النهضة بفعل إجراءات الرئيس قيس سعيّد الاستثنائية، واعتبار ما حصل مثال آخر على "أن الديمقراطية تُخيّب آمال الأحزاب الإسلامية ودليل إضافي على أن الجهاد والشريعة هما الطريق.. مقابل هذا الشعور/الخلاصة، سيطفو بعد أيام شعور بالنشوة والاعتزاز بنصر طالبان في أفغانستان، وستعلو صيحات "الله أكبر"، وسيُخرج "الشامتون" بالنهضة، و"الشتّامون" للديمقراطية "الكافرة"، ألسنتهم من حلقوهم ساخرين متوعدين.الشيخ عبد الرازق المهدي، المحسوب على "هيئة تحرير الشام"، نَظَرَ إلى ما حدث في تونس بوصفه مؤامرة خارجية، ليكشف عن أوجه تشابه مع ما حدث في مصر - السيسي وجماعة الإخوان، وهو يرى أن "انقلاب سعيد" جاء مدعوماً من مصر وفرنسا والإمارات وإذا ما تمكّن هذا "المجنون"، يقصد الرئيس التونسي، فسيفعل ما فعله السيسي.
خلاصة "السيف والكتاب" هذه، ستتعمق عن الشيخ المهدي بعد "فتح كابل"، فهو يقول في تغريدة: بوركت أيها الشعب العظيم.. حاربتهم أميركا وبريطانيا وفرنسا، فلجأوا إلى الجبال.. استمروا في نشر العلم، وحفروا مغارات في الجبال وعلموا الجيل كتاب الله.. الشعب الأفغاني هزم الإنكليز والسوفييت والأميركان".
أبو العبد أشداء، قائد "تنسيقية الجهاد" السورية تَساءل ساخراً في أعقاب الحدث التونسي: "ديمقراطية بدماء حمراء، انقلاب في تونس، انقلاب في مصر، انقلاب حفتر. هل هذه تُعتبر ديمقراطية؟"
ليعود و"تنسيقيته" المنشقة عن هيئة تحرير الشام، للتفاخر بـ "النصر العظيم على الصليبيين، وخروجهم ذليلين صاغرين من أفغانستان بعد 20 عاماً من الجهاد في سبيل الله". وليضيف في بيان احتفالي لاحق: "وإننا في هذه المناسبة السعيدة ننادي طلائع الأمة المجاهدين الصابرين في كل مكان، الصبر الصبر والثبات الثبات، هاكم الطريق فالزموه، ولا تغرنكم جيوش الأعداء، فالله أعلى وأجل، ومن سار على الدرب وصل، ولا يضيع الله أجر من أحسن عملا".
أما أبو محمود الفلسطيني، المنظر الجهادي المقيم في لندن وزميل أبو قتادة الفلسطيني أيضاً، فيقول في الحدث التونسي: "لن يحدث أي تغيير من دون تدخل قوة فعالة تفكك مفاصل الدولة الخفية وتقوّض ركائزها. ولا يمكن لمسار الديمقراطية أن يؤدي إلى حكم الشريعة وبناء دولة إسلامية". مقتفياً في ذلك أثر مرشده أبو قتادة الذي قال بصريح العبارة: "الجهاد ضرورة لا بدّ منها، فجميع المسلمين تقريباً، من مختلف البيئات والخلفيات، يعلّقون اليوم على ما حدث في تونس ويتفقون على أن الجهاد أصبح ضرورة.. ليس لديهم خيار آخر".بعد سقوط كابل بيد طالبان، يعود أبو محمود الفلسطيني للتغريد مجدداً "طالبان احتضنها العلماء بينما في بلادنا: العلماء أول من يهاجم المجاهدين ويسقطهم ويفشل مشروعهم العلماء ملح البلد، فمن يصلح البلد إذا الملح فسد"، ولم ينس أبو محمود استغلال المناسبة لتسجيل هدف في ملعب الإخوان المسلمين قائلاً: رؤوس المدرسة الإخوانية طعنوا بانتصار طالبان إسقاطا لنموذجها كي لا يُتخذ قدوة في طريقة التغيير في بلادنا فالإخوان اتبعوا النموذج السلمي، وقد انهار هذا النموذج وانهزم هزيمة جعلت قواعده تتخلى عنه، وجاء انتصار طالبان آخر مسمار في نعش النموذج السلمي... لذلك سيطعنون ليحافظوا على حزبهم".
ولم يترك أبو حفص زعيم ما يسمى جيش الأمة في غزة، المناسبة التونسية لتمر من دون أن يدلي بدلوه، إذ اقتبس مقولة للخليفة عمر بن الخطاب جاء فيها: "نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزَّة في غيره أذلَّنا الله".
كما لم يغب أبو حفص وجيشه التعليق على الحدث الأفغاني، إذ أصدر بياناً هنأ فيه "أخوة العقيدة والجهاد في حركة طالبان بتحرير بلادهم المسلمة، من دنس الاحتلال "الصهيو-صيني"، مستحضراً على ما يبدو قضية الإيغور المسلمين، مختتماً بنداء إلى "المجاهدون الموحدون في كل مكان عموماً، وفي فلسطين والشام خاصة أن اتخذوا من نصر إخوانكم المجاهدين الطالبان مثلاً ونبراساً واشتروا الدار الآخرة بالدنيا.. بيعوا أنفسكم إلى ربك العالمين".
أما أبو بصير الطرطوسي، المنظر الجهادي المقيم في أهم عاصمة الجهاديين الثانية: لندن، فقد خاطب "النهضة" قائلاً: "لن تجدوا من يبكي عليكم...فهذه مكافأة الذين يرفعون شعار فصل "الدعوة" عن السياسة’ وشعار "الحرية قبل الإسلام، وقبل تطبيق تعاليمه". فأنتم لم تنالوا الحرية ولم تدعموا الدين!".
الطرطوسي حوّل صفحته بعد أسابيع ثلاثة إلى مسرح للاحتفال بنصر طالبان الإلهي، وغرد قائلاً: "لا يغتاظ من النصر الذي حققته حركة الطالبان الإسلامية في أفغانستان إلا منافق، مريض القلب، يضمر الغش، والحقد على الإسلام والمسلمين"، موضحاً: "أيما جيش محلي وطني يبنيه العدو الغازي والمستعمر لمآربه، جيش له صفة الارتزاق، سرعان ما ينهار ويتفكك، عندما يرفع العدو المستعمر يده عنه".
أبو البراء الليبي، أحد منظري القاعدة، وصف تجربة "النهضة" الأخيرة على أنها جزء من تاريخ طويل لاستغلال منظمات "الإخوان المسلمين" وخيانتها من قبل الأنظمة المحلية التي تشاركت معها. وأشار على وجه الخصوص إلى ما حدث لـ "الإخوان المسلمين" في مصر في عهد جمال عبد الناصر ومؤخراً في انقلاب عبد الفتاح السيسي. وشملت الأمثلة أيضاً السودان وتركيا. وفي حين أن منظمات "الإخوان"، بما فيها "النهضة"، لا تتعظ من دروس الماضي، كما يدّعي، فإن الجهاديين لا ينخدعون أبداً لأن لديهم "موقفاً حازماً وثابتاً إزاء كل طاغوت يستبدل شرع الله ويقبل بالديمقراطية".
وتماشياً مع باقي الانتقادات المذكورة أعلاه، تهاجم افتتاحية تنظيم "الدولة الإسلامية" في "النبأ" بشكل مباشر اعتناق "النهضة" للديمقراطية: "من بين أكثر من عارض الله ورسوله في هذا العصر هم الساعون إلى الديمقراطية ومؤيدوها ومناصروها، من آمنوا بها واعتمدوها كمسار وطريق، وبالتالي ناقضوا السنّة وتعاليمها. فقد وصمهم الله بالخزي والبؤس والضياع، وقد ذيّلتهم هذه الصفات في الظروف كافة كطوق على أعناقهم. وهذا تماماً ما حدث اليوم مع "الإخوان المرتدّين" في تونس بعد أن حادوا عن مسار المؤمنين، واتبعوا الديمقراطية".
في الوقت الذي ساد فيه شعور "الشماتة" بالنهضة والإخوان على مواقف "الجهاديين" من مختلف مدارسهم، منظرين وفصائل، إلا أن الحدث التونسي ما كان ليمر من دون شكل من أشكال تصفية الحسابات فيما بينهم.. فتنظيم الدولة الإسلامية رأى في مقالة في مجلة النبأ أن قادة النهضة خالفوا سبيل المؤمنين واتبعوا الديمقراطية فكانت النتيجة سقوط آخر قلاعهم الديمقراطية"، ولم ينس "داعش" لبعض "أغبياء القاعدة" كما وصفهم، ثناءهم على "الطاغوت" قيس بن سعيّد عند انتخابه، في إشارة على ما يبدو إلى تغريدات سابقة لـ"أبو قتادة الفلسطيني"، إذ تقارن افتتاحية صحيفتهم "النبأ" بين مواقف القاعدة من الحدث التونسي، ومواقف جماعة "الإخوان المرتدين" في سذاجتهم".
لكن الحدث التونسي، وقع كالصاعقة على رؤوس قادة ونشطاء الجماعات الإخوانية في كل مكان تقريباً.. إذ سارعت هذه الجماعات إلى استصدار بيانات الإدانة والتنديد بما وصفته "الانقلاب"، وعقدت المقارنات ما بين تونس 2021 ومصر 2013 وتركيا 2016، ليخلص بعضهم إلى سؤال حول مغزى "الاعتدال" و"المدنية" التي تُطَالَب بها هذه الحركات، في الوقت الذي تبدو فيه مستهدفة في جميع الحالات، وفي حوار مع كاتب هذه السطور، قال أحد قادة جماعة الإخوان في الأردن: أليس هذا ما كنتم تدعوننا لفعله، أليست النهضة هي نموذجكم للإسلام المدني الديمقراطي ولفصل "الدعوي" عن "السياسي"، انظروا ما حصل لهم في تونس، هل هذا ما تعدوننا به إن نحن تعقبنا خطاهم؟..."الإسلام، معتدلاً كان أم متشدداً هو المستهدف"، هذه قناعة عادت للبروز مجدداً في أوساط الإسلاميين بعد الحدث التونسي.
وجاء "نصر طالبان" ليحدث اهتزازاً جديداً في صفوف الفصائل الإسلامية، السياسية منها والمسلحة "الجهادية"... أما الجهاديين، فقد لزمت "داعش" صمتاً قلقاً ومرتاباً، وهي التي خاضت معارك وحروب ضد طالبان في أفغانستان، وفي بعض الأحيان، قاتلتهم طالبان كتفاً إلى كتف مع الأميركيين...أما القاعدة فقد رحب بعض رموزها ومنظريها بالفوز العظيم، فيما لزمت "النصرة سابقاً"، جانب الترحيب الحذر، وهي التي تتحضر لسلوك طريق التكيف مع مقتضيات العملية السياسية في سوريا، وسبق لها أن أصدرت بياناً رحبت فيه بسلوك طالبان طريق مفاوضات الدوحة، على أمل أن تلتحق الهيئة بالطريق ذاته، عندما تنضج الشروط لذلك. وجاء في بيان للهيئة بعنوان "هنيئاً طالبان" أن الأخيرة "لم تخلط بين المسارين السياسي والعسكري، بل سار كل مسار منهما في خدمةِ الآخر، وأنه لا قيمة للفعل السياسي دون قوة عسكرية تحميه".
هيئة تحرير الشام تركت على ما يبدو لشيوخها أمر الترحيب غير المتحفظ، بفوز طالبان من دون أن تتورط رسمياً بأكثر مما ينبغي في تظهير "التماهي" أو "التأييد غير المشروط" لطالبان، فقد كتب منظرها الشهير أبو ماريا القحطاني "أبارك للأمة للإسلامية انتصار إخواننا الطلبة على المحتلين وأذنابهم في أفغانستان وتعازينا للخونة والمنافقين" معتبراً "انتصار طالبان انتصار للمسلمين وأهل السنة وجميع المظلومين".أما مظهر الويس، فعلق قائلاً "لا شك أن الكثير من الدروس قد استفادتها الحركة "طالبان" حتى عادت أقوى من جديد، الفرحة تغمرنا بنصر الله هنالك، ونتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن تعم الفرحة بلاد الشام والعراق وسائر أنحاء أمتنا المكلومة المظلومة".بدرجة أقل من الحماسة، استقبلت جماعات الإخوان المسلمين الحدث الأفغاني، فهي وإن سارعت إلى إصدار بيانات التبريك والترحيب (حماس، جبهة العمل الإسلامي، إصلاح- الكويت وغيرهم)، إلا أن بعض فروع الجماعة، بالذات تلك المنخرطة في عمليات سياسية في بلدانها، خشيت من أن تضع "الصورة الملهمة" لنموذج طالبان "تحديا كبيرا أمام المقتنعين بالتغيير السلمي لأنظمة ديكتاتورية مدعومة من دول أجنبية"، وفقاً لما جاء في مقالة نُشرت على موقع "المجتمع" التابع لإخوان الكويت وحملت عنوان "خطورة نموذج طالبان الملهم!"، وهي المقالة التي وظّفها أبو محمود الفلسطيني للنيل من الإخوان المسلمين، وما لم تقله المقالة صراحة، ردده موسى أبو مرزوق في تغريدة له، جاء فيها "تنتصر طالبان اليوم بعد أن كانت تتهم بالتخلف والرجعية والإرهاب، وها هي الآن حركة أكثر ذكاءً وواقعية، وقد واجهت أميركا وعملاءها، رافضة الحلول الوسط معهم، ولم تُخدع بالعناوين البراقة كالديموقراطية والانتخابات، ولا بالوعود الزائفة. درس مرت به كل الشعوب المظلومة، فهل من متعظ؟"...سؤال أبو مرزوق ما زال يتردد بين جنبات مختلف الجماعات الإسلامية، ومن السابق لأوانه التكهن بالتفاعلات التي سيحدثها.