بقلم - عريب الرنتاوي
هل لدى الفلسطينيين من «الأوراق» التي ما إن لجأوا إليها حتى أمكن لهم قلب الطاولة على رأس المشروع الأمريكي – الصهيوني المسمى زوراً وبهتاناً وإفكاً بـ «صفقة القرن»، ما هي هذه «الأوراق»، وما هي مزايا وعواقب استخدامها؟
سؤال لا تخلو منه أية مقابلة مع أي مسؤول أو مثقف فلسطيني، وهو سؤال يشغل عقول الفلسطينيون ويستحوذ على أفئدتهم ومشاعرهم، وسط إحساس عميق بـ»التيه»، يذكر بما كان عليه حالهم في الفترة من 1948 – 1965، مع فارق جوهري، يتمثل في اختلاف الظروف والدولية المحيطة بقضيتهم الوطنية، فالحقبة تلك، كانت حقبة صعود لحركات التحرر الوطني العربية والأممية، حملت الحركة الوطنية الفلسطينية الوليدة على أجنحتها، فيما الحالة العربية اليوم، تبدو في أكثر مراحها تهافتاً وتفريطاً، ويلفظ المعسكر الاشتراكي آخر أنفاسه في آخر معاقله على الساحة الدولية.
الإجابة على السؤال الافتتاحي لهذه المقالة، تأتي غالباً، ضبابيةً ومتلعثمة، لا تشفي غليل الفلسطينيين لرؤية ضوءٍ في نهاية النفق، ولا تسيل أي قدر من «الأدرينالين» في عروق خصومهم وأعدائهم، فيحل «الانشاء» و»البلاغة» محل التفكير العلمي والعملي، وتضيع البوصلة في زحمة «الشعاراتية الفارغة» و»الإيمانية- اليقينية» التي ترهن الحاضر بعلم الغيب، وتعلق جدول الأعمال الوطني الملموس على مشجب «الحتميات التاريخية» سواء في بعدها الإيماني – الديني، أو في بعدها اليساري – القومي.
ومن أسفٍ، أنني لا أملك الجواب على سؤال، فـ»التيه» يضربني كما يضرب ملايين الفلسطينيين في الوطن المحتل والمحاصر والمبدد والمشتت ... على أنني أعتقد تمام الاعتقاد، بأن المدخل للإجابة على هذا السؤال، إنما يقع في «إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني»، وهل ما يزال بالإمكان اختزاله في «العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس»، ودراسة مدى «صلاحيته» بعد كل ما أمكن لإسرائيل وحلفائها فرضه من وقائع على الأرض، وهل يمكن بناء توافق وطني حول «تعريف جديد» لهذا المشروع، وما عناصر هذا المشروع ومكوناته؟ وما الذي يتعين علينا فعله، بكافة الأطر والهياكل والمؤسسات القائمة، وما الذي يخدم منها مشروعنا الجديد وما الذي يقف حجرة عثرة في طريقه؟ ... وأية أشكال وأولويات وأدوات كفاحية يتعين على الشعب الفلسطيني اللجوء إليها واستخدامها في المرحلة المقبلة من كفاحه على طريق الحرية والاستقلال وتقرير المصير؟
سيقول قائل: إن المطلوب اليوم، إنجاز المصالحة الفلسطينية فوراً ومن دون إبطاء ...بيد أننا كلما أكثرنا من الدعوات للمصالحة، كلما ازدادت الحالة الفلسطينية تشظياً، وانظروا كيف انتقل «فيروس» الانقسام الوطني العامودي، إلى داخل الفصيل الوحيد، وفي صفوف منظمة التحرير، وكيف أصاب القائمة العربية المشتركة في مقتل... لكن تردي الحال الفلسطيني وتشظيه، لا يجب أن يمنعنا من مواصلة الدعوة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، ولكن من دون «سذاجة» في التقدير والرهان.
وقد يقول قائل ثانٍ: تطوير «المقاومة الشعبية السلمية»، وتستحضر لهذه الغاية نماذج رائدة في الفعل الشعبي السلمي المقاوم: مسيرات العودة و»هبّات القدس والأقصى المتعاقبة»، ولكن تمعنوا في مغزى ودلالة هذه الأفعال: القدس انتفضت بدعم وإسناد من فلسطيني 48 أساساً، وبعيداً عن مناطق سيطرة السلطة والمنظمة والفصائل، وتمعنوا كذلك، في مغزى ودلالة المفاوضات التي صاحبت مسيرات العودة، والتي لم تدرج «العودة» على جدول أعمالها قط، ليقتصر البحث من خلالها على « تهدئة»، لا تفضي إلى انفجار القطاع، ولا تسقط سلطة الأمر الواقع في القطاع المحاصر والمجوّع... لا يعني ذلك مرة أخرى، الكف عن المطالبة بـ»رفع كلفة الاحتلال» وإطلاق مقاومة شعبية سلمية في الضفة والقطاع، فتلكم مهمات مدرجة على جدول أعمال كل المراحل النضالية الفلسطينية، ولكن يتعين التفكير بالأمر بعيداً عن الرغبة في «إبراء الذمة»، أو الادعاء بمعرفة وجهة البوصلة وملامح طريق الخلاص.
وقد يقول قائل ثالث: إننا بحاجة لبعث منظمة التحرير وتطويرها وترشيقها، وإعادة وصل ما انقطع من أدوارها وصلاتها بالتجمعات الفلسطينية حول العالم ... أذكر أن هذا الشعار كان محور صراعتنا الداخلية قبل وبعد الخروج من بيروت، ومنذ ذلك التاريخ القديم، تردت أوضاع المنظمة بدل أن تتطور، وزادت الحركة الوطنية شيخوخة بدل أن يجري «تشبيبها»، وتعاظمت الفجوات بين الممثل الوطني، الشرعي والوحيد، وشعبه، إلى أن جاءت السلطة، فأكلت الابنة أمها، وظل جيلان من الشعب اللاجئ (وحتى المقيم) خارج أطر المنظمة ومنظماتها الشعبية... حتى أن البعض من الغيورين على مآلات القضية الفلسطينية، بدأ التفكير بالحاجة لإطلاق «وكالة فلسطينية عالمية» على طريقة «الوكالة اليهودية العالمية»، فيما يذهب آخرون، من أصحاب الرؤى الضيقة والمغلقة، جاهدين في محاولاتهم خلق أطر بديلة وموازية، ومن ضمن صراع فئوي مقيت وبغيض... مطلب بعث وإحياء المنظمة، بات هو الآخر بحاجة لبحث وتحليل، إن لجهة جديته وفرص تحققه، أو لجهة أدواره المحتملة والمرجحة.
وقد يقول قائل رابع: إن المخرج، أو أحد المخارج، في حركة المقاطعة الوطنية والعالمية، وهذه ربما تكون نقطة الضوء «الأسطع» في الليل الفلسطيني البهيم ... ولكن تمعنوا في تداعيات التهافت العربي والإسلامي و»الهرولة» غير المسبوقة من قبل الكثيرين على التطبيع مع إسرائيل وكسب ودها، لتروا أن هذه الحركة بدورها، تواجه تهديداً جوهرياً سيما في ضوء التوجهات الجديدة لليمين الأمريكي والأوروبي، والتي تسعى في إقامة تماثل مصطنع بين «نقد إسرائيل» والدعوة لمقاطعتها من جهة، والعداء للسامية من جهة ثانية... حركة المقاطعة يجب أن تستمر وأن تدعم، بوصفها استراتيجية بعيدة المدى لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة بناء الرواية الفلسطينية وترويجها .... وإلى غدٍ.