بقلم - عريب الرنتاوي
أن يقف الأردنيون صفاً واحداً خلف «لاءات الملك الثلاث»، فهذا أمر مفهوم ومطلوب ومنتظر، فلا تفريط بالقدس ومكانتها والرعاية الهاشمية لمقدساتها، ولا تساهل أو تهاون في مواجهة مؤامرتي «التوطين» و»الوطن البديل» ... وحدة الموقف الأردني، ملكاً وحكومة وشعباً، خلف هذه «اللاءات» هي المقدمة الأولى والشرط الضروري لإسقاط ما يحاك لفلسطين والأردن على حد سواء، من مؤامرات، نسميها كذلك من دون تردد، فلا اسم آخر لها، بعد أن تكشفت أو تكاد تتكشف، ملامح صفقة القرن ومكوناتها.
يذكرنا المشهد الراهن، بمشهد آخر في مطلع تسعينات القرن الفائت، زمن حرب الخليج الثانية، وما رافقها وأعقبها من إجراءات وضغوط، طالت الأردن في اقتصاده ومعاشه، وأخضعته لحصار يكاد لا يختلف عن ذاك الذي خضع له العراق بعد غزوه للكويت ... عناصر الشبه كبيرة بين المشهدين، لكن عناصر الاختلاف موجودة أيضاً، ويجب ملاحظتها وإدراكها.
لا يكفي أن يكون الشعب ملتفاً سياسياً وعاطفياً حول القيادة، يجب تحويل هذا الالتفاف إلى «قوة مادية ملموسة»، ويتعين العمل على تحويل العاطفة إلى روافع لعمل وطني جبّار ... قبل ثلاثة عقود، كان مسار التحول الديمقراطي يشهد انطلاقته وبداياته، وخرجت الأحزاب من تحت الأرض إلى سطحها، وأنجز الأردنيون انتخابات جاءت ببرلمان «سياسي – تعددي» بامتياز... وأمكن تحويل التفاف الأردنيين حول الملك الراحل، إلى قوة مادية جبارة، مكنت الأردن من الصبر والثبات في مواجهة الحصار ... اليوم، تبدو الصورة مختلفة، فمشاعر الإحباط واليأس وانعدام اليقين، تكاد تختطف غالبية الأردنيين وتهمين عليهم، فيما التجربة الديمقراطية التي أثخنت بجراحات قانون «الصوت الواحد»، تواجه تحديات جسيمة، وفجوة الثقة بين المواطنين أنفسهم، وبينهم وبين مؤسسات الدولة والمجتمع من حكومات وأحزاب وبرلمانات، تزداد اتساعاً.
الأردنيون في مطالع التسعينات، كانوا متحفزين، تملأهم الثقة والأمل بمستقبل واعد، وهم الذين كانوا غادروا لتوهم، عقوداً ثلاثة من «الطوارئ» و»الأحكام العرفية» ... الأردنيون اليوم، قلقون ومتحسبون، وهم بأمس الحاجة لـ»مشروع وطني» أو «قضية جامعة» تخرجهم من رتابة أيامهم، ومن حالة الإحباط التي يمرون بها، ومن إحساس عميق بانعدام الجدوى ... هنا، وهنا بالذات، تكمن مسؤولية الحكم والحكومة، في انتشال المواطنين ونقلهم من حالة إلى حالة، والطريق إلى ذلك معروف تماماً: اصلاح سياسي جدي، يجسر الفجوة بين المواطن ومؤسسات دولتهم، ويعيد تنشيط وبعث الحياة الحزبية والبرلمانية بعد أن تيبست عروقها بانقساماتنا وتفاقم هوياتنا الثانوية وضعف بنى العمل السياسي والحزبي والبرلماني والحكومي سواء بسواء
وأن يخرج المواطنون عفوياً في مسيرات الدعم والتأييد، فهذا أمرٌ مرحب به، بيد أنه غير كافٍ ... أكاد أجزم بأن أحداً خارج الأردن لم يسمع أو يهتم كثيراً بما نقوم به على هذا الصعيد، لكأننا نخاطب أنفسنا بما نفعل، فيما المطلوب بعث رسائل قوية للخارج، تبدأ بتأطير هذه الجموع وتلك المبادرات ومأسستها وضمان استدامها حتى لا تصبح مجرد «فزعة من فزعاتنا» ... ولا أعرف طريقاً لفعل ذلك، غير تحقيق «الاختراق» المطلوب في مسار الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي.
إشهار «اللاءات الملكية الثلاث» في وجه مؤامرة ابتلاع القدس وتهويدها وأسرلتها، وذوداً عن أمن الأردن واستقراره وهويته الوطنية، يعني شيئاً واحداً فقط: أن هذه الأهداف السامية تتعرض للتهديد اليوم، كما لم يحدث من قبل ... وأن التهديد بات على مرمى حجر منا، وفي حوارات أجريتها مع باحثين ومفكرين في القاهرة، على هامش مؤتمر لجامعتها الأمريكية، توضحت الصورة وتأكدت لنا أسوأ هواجسنا ... إسرائيل ليست وحدها من تغير خلال الربع قرن الأخير، الولايات المتحدة ذاتها تغيرت كذلك ... ونحن نقترب يوماً إثر آخر من الوصول إلى الاستنتاج بأن أخطر تهديد يجبهنا، هو الآتي من المانح الأكبر لنا، حليفنا الاستراتيجي، الذي يبدو أنه وضع جميع السيناريوهات على الطاولة، بما فيها سيناريو «التوطين» و»الأردن هو فلسطين»، أما القدس، فهو باح بما في جعبته عندما قرر نقل سفارة بلاده إليها قبل أزيد من عام.
التهديد جدي، لكن الفزع والذعر محظوران ... لسنا مجردين من الأوراق، والإرادة السياسية كفيلة بأن تفعل فعلها، وتوحد الشعب والقيادة كفيل بتحقيق المعجزات، وتحكيم العقل والتنظيم وحشد الموارد، يتقدم على أشكال التعبير العاطفية والعفوية الأخرى ... فهل نحن «نجرؤ على الانتصار»؟