بقلم - عريب الرنتاوي
أن يقال بأن الرئيس دونالد ترامب قد فعل ما فعل، تعبيراً عن انحيازه للرواية التوارتية في الحق التاريخي والإلهي لليهود في فلسطين، فهذا أمرٌ مفهوم، بوجود مدرسة «غبية» و»غيبية» تسعى في «أسطرة» السياسة وتحيلها إلى «ميتافيزيقيات» و»خرافات» لم تصمد طويلاً أمام الحقائق الصلبة لعلوم الآثار والانثروبولوجي، دع عنك فقدانها للمنطق والحس والسليم.
وأن يقال بان ترامب قارف فعلته النكراء، لأسباب انتهازية محضة، تقوم على محاولة ترميم إدارته وصورته، وهو المحاط بكل الفضائل والاتهامات، والتحقيقات بشأن تجاوزاته وصلت إلى أهل بيته، وقد تطاوله شخصياً، وربما بأسرع مما نظن وتظنون، فهذا أمرٌ مفهوم في عالم السلطة والسياسة، وكم من زعيم ضحى بمصالح بلده من ترميم صورته وإطالة أمد بقائه في السلطة، فما بالك وأن الرجل يضحي هذه المرة، بمصالحنا نحن، فلسطينيين وأردنيين وعرباً ومسلمين.
وأن يقال إن ترامب، لم يفعل سوى التعبير عن انحيازه لدولة إسرائيل، فهذا أمرٌ فيه قدر من التبسيط والسذاجة، فكل من دخل البيت الأبيض ومكتبه البيضاوي، أظهر انحيازاً صارخاً لإسرائيل، بيد أن ترامب هذه المرة، يسجل لنفسه قصب السبق في الانحياز إلى اليمين الديني والقومي الأكثر تطرفاً في دولة الاحتلال والاستيطان والتمييز العنصري ... بعض الإسرائيليين، نخباً ورأي عام، أظهروا من القلق أكثر مما أظهروا من الحماسة حيال قرار ترامب وخطوته غير المسؤولة وغير المسبوقة.
نحن والحالة كهذه، أمام سلوك غير عقلاني، يصدر عن رجل قال المئات من علماء النفس وأطبائه في الولايات المتحدة ذاتها، بأنه يفتقد للأهلية العقلية والذهنية لحكم بلد بحجم الولايات المتحدة، حتى أنهم اقترحوا في عريضة وزعوها على الصحافة، بأن يخضع رئيس الولايات المتحدة مسبقاً، ومن الآن فصاعداً، لفحص حول الأهلية النفسية والعقلية، وليس الصحية والجسدية فقط ... ترامب كان حافزاً قوياً لهؤلاء للتفكير على هذا النحو.
هو «مهجوس» بتميزه وفرادته، فهو الرئيس الاستثنائي، الذي يعني ما يقول، وينفذ ما يقول ... هو وإن كان الأخير زمانه، سيأتي بما لا تستطعه الأوائل من رؤساء الولايات المتحدة ... وهو الرجل الحازم، القوي، الشجاع، غير المتردد، الذي إن قال فعل، حتى ولو وقف العالم في وجهه ... لا تهمه مواقف إدارته وخبرائه ومساعديه، ولا يكترث بحلفائه الكبار منهم والصغار، وهو مستعد لفتح المعارك والجبهات على الأطلسي والباسيفيك، والبحار الأسود والأحمر والأبيض ... لا يهمه شيء من كل ما يدور في عقول الزعامات والحكومات، فهو وحده المفوض بقول الحقيقة، وهو الراعي لها والوصي عليها.
في السياسة كما في مناح مختلفة من الحياة، ثمة سلوك يبدو في ظاهره «عقلاني» بيد أنه في جوهره «لا عقلاني» ويصدر عن منطقة في الدماغ، تتحكم بها الهواجس والرغبات والغرائز و»المخيال»، وثمة طفرات في التاريخ لا يمكن تفسيرها إلا على هذا النحو، واحسب أن ترامب سيكون «حالة دراسية» في قادمات الأيام، بعد أن تفرغ الولايات المتحدة من سطوة إدارته وتنجح في تنظيف «الفوضى» التي يخلفها يومياً.
مشكلتنا مع ترامب، وإن بدت «شخصية»، أي متعلقة بشخص الرئيس وسلوكه «اللا عقلاني»، مشكلتنا معه أن ما يصدر عن هذا الرجل من سلوك وقرارات ومواقف، قد لا يكون قابلاً للنقض أو الإمّحاء ... سلوكه يتحول إلى قوانين وتشريعات وقرارات ملزمة، لمن سيلحق به من إدارات، إذ هيهات أن تعترف واشنطن بأن أميركا انتخبت رجلاً فاقد الأهلية، لأهم وأخطر وظيفة في العالم.
من بين جميع «الهواجس» و»العوامل اللا عقلانية» التي تحكم سلوك الرجل، ثمة هاجس مفتاحي، يصعب فهم الرجل من تفكيكه، وربما يشكل «الخيط الناظم» لقرارات الرجل و»تغريداته»، وأعني به هاجس الكراهية للعرب والمسلمين، والذي تجلى في أوامره المتعاقبة بمنع مواطني عدة أقطار عربية وإسلامية من دخول الولايات المتحدة، وبرز على نحو مشين في تغريداته الأخيرة، التي أعاد فيها نشر رسوم عن موقع حزب بريطاني هامشي مغمور، له برنامج سياسي من نقطة واحدة: العداء للمسلمين، ما تسبب في أزمة بين ترامب وتيريزا ماي، أفضت إلى إلغاء زيارة كان مقرراً أن يقوم بها ترامب لبريطانيا العظمى ... هذه الكراهية الدفينة، معطوفة على وقوع الرئيس بين يدي قبضة من المستشارين الصهاينة الأشد تطرفاً، من صهره كوشنير، إلى موفده للسلام جرينبلات إلى سفيره في إسرائيل فريدمان، تجعل الرجل يفيض بمشاعره على عقله، ويتصرف محكوماً بها، وهي في جوهرها، مشاعر سوداء طافحة بالكراهية.
شخصية من هذا النوع، لا شك تعاني انفصاماً عن واقعها، وانظروا إلى خطابه أمس الأول لتروا إلى حد بدا فيه هزلياً ومنفصماً ... فهو يبرر قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بوصفه خطوة على طريق تحريك مسار السلام ... أي معتوه يمكن أن يقبل بمثل هذا التبرير ... بل ويبلغ الفصام حداً متفاقماً حين يبشرنا الرجل وهو يستعرض توقيعه «القبيح» الذي يحتاج إلى تحليل نفسي مفرد، بأنه سيوفد نائبه إلى المنطقة، لاستئناف التعاون مع الأصدقاء في الحرب على التطرف والإرهاب ... أنظروا في هذه المفارقة: الرجل الذي أطلق كل شياطين الكراهية والتطرف من قمقمها دفعة واحدة، يتصرف وكأن شيئاً لم يحدث، ويريد أن يمارس يومياته في المنطقة كالمعتاد، في الوقت الذي تجد فيه سفارات بلاده وبعثاتها في طول العالم الإسلامي وعرضه، صعوبة في مزاولة أعمالها الروتينية المعتادة ... أليس هذا هو ذروة الانفصام والانفصال عن الواقع المعاش؟