بقلم : عريب الرنتاوي
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعرف ماذا يريد، وهو من النوع “المقاتل” الذي يحرص على نيل مراده، مهما تعاظمت العقبات والصعاب … وفي سبيل تحقيق مراميه، فإن الغاية عنده تبرر الوسيلة، ولا خطوط حمراء يمكن أن تحول بينه وبينها … هو ليس من النوع “الصلب الذي يمكن كسره”، ولا من النوع “السهل الذي يسهل عصره” … ينحو للمغامرة حيناً و”يعرف حده فيقف عنده” في أحيان أخرى.
أمس، كشف أنه فاتح شخصياً كلاً من فلاديمير بوتين (روسيا) ونزار باييف (كازاخستان) بأمر انضمام تركيا لمنظمة شنغهاي، التي تضم إلى جانب البلدين المذكورين، كلا من الصين وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجكستان كأعضاء دائمين، وتتطلع كل من الهند وباكستان وأفغانستان وإيران للعضوية الكاملة في هذه المنظمة، وتهدف لتنظيم وتعزيز التعاون الأمني بين الدول الأعضاء في مواجهة التهديدات الأمنية والحركات الجهادية والمخدرات والجريمة المنظمة، وغيرها من آفاق تعاون، يجري العمل على تطويرها.
الذهاب إلى شنغهاي، هو البديل الذي “يلوّح” به أردوغان، إن ظلت أبواب بروكسيل مغلقة في وجه عضوية بلاده في نادي الدول الأوروبية … الأمر لم يخرج بعد عن “التلويح” إلى تقديم “أوراق الاعتماد” … تلكم سياسة معتمدة من قبل الرجل، تقوم على “ابتزاز” الخصوم والأصدقاء على حد سواء، وحتى آخر قطرة، لانتزاع ما يمكن انتزاعه من مكاسب وتحقيق ما يمكن الوصول إليه من مغانم … أوروبا التي ذاقت الأمرين من السياسات الابتزازية لأنقرة، تضيق ذرعاً بالرجل، الذي فتح حدود بلاده أمام “طوفان اللاجئين” ويهدد بفعل ذلك دائماً، إن لم ينل ما يريد.
ولأن الرجل يقود بلاده داخلياً، صوب “ديكتاتورية ناشئة” بعد أن خرجت من خانة “الديمقراطيات الناشئة”، فإنه يعرف تمام المعرفة، بأن الارتداد عن مسار الحريات والحقوق والتحولات الديمقراطية التي شهدتها البلاد في السنوات العشر الأولى من حكم العدالة والتنمية، ستلقي بظلال كئيبة وكثيفة حول مسار انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، لن تنفع معها، تهديدات الزعيم الانفعالي، ورزنامته الزمنية الضيقة التي قذفها في وجه الأوروبيين بقوله: نهاية العام هو الموعد النهائي لتقرر أوروبا بشأن علاقاتها مع أنقرة (؟!)
في هذه المناخات، يأتي حديث أردوغان عن منظمة شنغهاي، فهو ينفع من حيث التوقيت، في “ابتزاز” أوروبا و”النيتو”، إن لم يكن في ملف عضوية تركيا في الاتحاد، فأقله لتنفيذ “اتفاقية التأشيرة”، وإن لم تنفع في هذه ولا تلك، فلا أقل من “لجم” الاندفاعة الأوروبية التي لا تكف عن انتقاد سجل تركيا في ملف حقوق الانسان، بعد أن تحولت إلى أكبر سجن للصحفيين، وبعد أن أعقبت المحاولة الانقلابية الفاشلة، حملة “مكارثية” ضد المعارضين والخصوم من كل الأطياف والأولوان.
لكن من الخطأ الاعتقاد بأن حكاية “منظمة شنغهاي” تندرج فقط في سياق الابتزاز و”التلويح” … في ظني أن الرجل يفكر جدياً باستبدال شنغهاي ببروكسيل، الأولى – عموماً – نادٍ لأنظمة غير ديمقراطية، وبعضها ديكتاتورية بامتياز، إذ باستثناء الهند التي تتحضر لعضوية المنظمة كاملة، يصعب تصنيف أي من الدول الأعضاء الأخرى، او حتى الدول المرشحة للعضوية، بوصفها دولاً أو نظماً ديمقراطية …. هنا سيرتاح أردوغان، مرة واحدة وإلى الأبد، من “شروط كوبنهاجن ومعاييرها” الثقيلة، ولن يجد من بين دول شنغهاي من سيلومه إن هو اعتقل الصحفيين أو أغلق وسائل إعلام، أو زج بعشرات ألوف المواطنين في سجونه … معظم دول شنغهاي إن لم نقل جميعها، سبق وأن تورطت في أعمال مماثلة، وبعضها لا يزال يفعل المزيد من الشيء ذاته.
أوروبا تضيق بتركيا، وتركيا تبتعد عن “معايير كوبنهاجن”، وتتحول إلى دولة تشبه دولنا وأنظمتنا العربية، سياسياً على الأقل، وأردوغان ماضٍ في بناء زعامة لا منافس لها ولا معترض على توجهاتها، وهو إذ أشعل حرباً في جنوب شرق بلاده، لضمان الفوز بالعدد الكافي من المقاعد لتشكيل حكومته منفرداً، من دون اضطرار للائتلاف مع أحزاب أخرى، فإنه مستعد لفعل أي شيء ليبقى في السلطة، وليحيلها إلى سلطنة، يتربع على عرشها إلى ما بعد احتفالات المئوية الأولى لقيام الجمهورية … هذا الطريق لا يمكن أن يفضي إلى بروكسيل، فلا بأس من الذهاب إلى شنغهاي والحالة كهذه.
وسيجد الرجل، ورهط الإعلاميين والمحللين والصحفيين الناطقين باسمه والدائرين في فلكه، تماماً مثلما هو حال إعلامنا العربي مع زعمائنا العرب، الطريقة النسب لتسويغ وتسويق اتجاهات كهذه … فمنظمة شنغهاي تضم ثلاثة مليارات نسمة، بناتج قومي إجمالي يزيد عن العشرين ترليون دولار … المعجزة الاقتصادية التركية يمكن أن تستمر، أقله لبعض الوقت في إطار شنغهاي، بعد أن ثبت لأردوغان، أن المعجزة السياسية التي يريد تحقيقها لبلاده، بتحويلها إلى “ديكتاتورية ناشئة” لن تزدهر وتتحقق الا في حاضنة كهذه، وبعيداً عن أعين الرقيب الأوروبي.
وربما لهذا السبب بالذات، كانت الصين أول من تحمس لعرض أردوغان، فرحبت خارجيتها بالأمر، وأبدت الاستعداد للاستعجال في دراسته واتخاذ الإجراءات الكفيلة بإتمامه … الصين هذه، صاحبة المعجزة الاقتصادية، هي النموذج الملهم لـ”أردوغان 2” في بعديها الاقتصادي والسياسي … اقتصاد عملاق، ينمو بوتائر عالية، وانغلاق سياسي، ما زال يعمل بنظام الحزب الواحد، ويعتمد أدوات إيديولوجية لفرض الهيمنة والسيطرة على المجتمع بأسره … أليس هذا ما يفعله أردوغان، مستعيضاً عن كارل ماركس وماو تسي تونغ بشيوخ الصوفية والإخوانية؟ … أليس هذا ما يحلم “السلطان” بإنجازه والاحتفال به في العام 2023؟