بقلم - عريب الرنتاوي
سجل العام 2017 الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، سقوط أسطورة “داعش” وانهيار التنظيم الإرهابي الأكثر دموية، كـ “دولة” وجغرافيا ومؤسسات، على أنه ما زال حاضراً بقوة بوصفه تهديداً ماثلاً، ليس في الدولتين التي أقام دولته على خطوط “سايكس بيكو” الفاصلة بينهما فحسب، بل وفي عموم المنطقة والعالم كذلك ... وثمة ما يكفي من التقديرات والمعلومات الاستخبارية التي تؤكد حقيقتين اثنتين: الأولى، أن الافاً من عناصر التنظيم وكوادره وقياداته المجربة، ما زلت مبثوثة في قرى وبلدات سوريا والعراق، وتحديداً على امتداد نهر الفرات وعمق البادية، تستهدف المواطنين وتستنزف الأجهزة الأمنية ... والثانية، أن التنظيم يؤسس لقاعدة جديدة في العمل “الجهادي”، مفادها أن خسارة ساحة توجب الانتقال إلى ساحة أخرى، ولهذا فإن ظاهرة “العائدين من أرض الجهاد”، جاءت في أدنى مستوياتها هذه المرة، ما يعني أن ارتفاع وتائر التهديد في أفريقيا عبر البوابة الليبية، فضلاً عن ساحات الجذب الأخرى مثل أفغانستان والباكستان.
المعركة طويلة إذن، والتنظيم بأذرعته “الإخطبوطية، ما زال قادراً على الضرب والإيلام، بل وما زال قادراً على إلهام جماعات “جهادية” من خارجه، لأن تحذو حذوه ... ارتفاع وتائر الإرهاب في مصر، واتخاذها طابعاً دموياً، لا يعرف الرحمة ولا الهوادة، هو دليل آخر على “النفس” الذي يبثه التنظيم في عروق “الحركات الجهادية” الأخرى، ما يعني أن الحرب على الإرهاب، أبعد من أن تكون قد وضعت أوزارها، وأن الذي تغير مع مختتم العام 2017، هو انتقاله لأساليب أخرى وأدوات مغايرة، وساحات بعضها جديد، وبعضها الآخر، قديم – جديد، وسط تقديرات بأن الفشل السياسي في إطلاق عمليات سياسية وبناء نظم سياسية متوازنة في كل من سوريا والعراق، وغيرها بالطبع، من شأنه أن يفعّل طاقة الغضب ويوفر بيئة خصبة تمكن التنظيم، بصورته الحالية، أو بأي صورة جديدة سيظهر بها، من استعادة قدرته على “التجنيد” بعد أن سجلت تراجعا ملحوظاً بعد تحرير الموصل والرقة، وفقاً لتقديرات الخبراء والمصادر الأمنية الإقليمية والدولية.
العام الذي يطل برأسه، 2018، مثقلاً بكل الملفات المفتوحة والمتوارثة من السنوات، وأحياناً العقود، الماضية، يحمل في طيّاته بشرى إنهاء سيطرة “النصرة” على مساحات واسعة نسبياً من الجغرافيا السورية، هذا “وعد بوتين” على أقل تقدير، وهذا ما تشي به وجهة المعارك التي يخوضها الجيش السوري وحلفاؤه في الربع الأخير من العام الجاري.
“النصرة”، بخلاف “داعش”، تكاد تكون محصورة في منطقتين جغرافيتين: إدلب وجنوب غرب سوريا ... في الشمال، يحظى تنظيم الجولاني بدعم تركي غير قابل للشك أو الطعن، وفي الجنوب الغربي، يحظى “فرع القاعدة” وذراعها، بدعم إسرائيلي، وثقته تقارير الأمم المتحدة على أية حال، ولم يعد سراً بعد أن ذاع وانتشر، بالصورة والمعلومة.
لا تتوفر “النصرة” على ما كان لدى “داعش” من مقدرات بشرية ومادية، بيد أنها تتفوق عليه، بما تتوفر عليه من شبكة علاقات محلية وإقليمية، فهي لا تعمل وحدها، وإن كانت تجنح دائماً للهيمنة، ولطالما عملت على “الاستظلال” بالفصائل الأخرى، من جيش حر وغيره، وهي تجهد في الإبقاء على شرايين الدعم التركي وغيره، مفتوحة ومن دون انسدادات، قد تتسبب بكشفها وتقديمها لقمة صائغة لدمشق وطهران ومن خلفهما موسكو.
عام 2018، هو عام القضاء على جبهة النصرة، فلا يمكن تخيّل أي حل سياسي لسوريا، من دون “تحييد” هذا التنظيم، لا “سوتشي” ولا “أستانا” ولا “جنيف” يمكن أن تتقدم من دون حسم وضع “النصرة” ميدانياً... يمكن لتحالفات التنظيم أن ترجئ لحظة الاستحقاق، وأن تؤجل المعركة لأشهر كما نجحت في تأجيلها لسنوات، لكن لحظة الحسم آتية لا ريب، وموعدها في العام المقبل، على أرجح تقدير.
والمفارقة أن كثيرا من القوى الغربية، المنضوية في إطار التحالف الذي تقوده واشنطن ضد الإرهاب، لا تتحدث كثيراً عن “تهديد النصرة”، مع أنها رسمياً، امتداد للقاعدة، ربما لأن التنظيم لم ينفذ عمليات خارج حدود سوريا، ولأهداف تكتيكية ذكية، وربما لأن بعض أطراف التحالف، وتحديداً قيادته، الولايات المتحدة، تريد للتنظيم أن يلعب دوراً في “تهميش صورة النصر الروسي” في سوريا، حتى ولو أفضى ذلك للتحرش بقاعدة “حميميم” كما حصل مؤخراً ... وتريد للتنظيم أن يواصل دوره في “تهشيم” قوات النظام وحلفائه ... لم نسمع منذ زمن عن “تهديد النصرة”، والأهم، أننا لا نرى فعلاً ميدانياً جدياً ضد قواعده وقياداته ومناطق نفوذه من قبل التحالف بكل مكوناته.
“النصرة” مشكلة دمشق، فهي تسطير على إدلب في موقع القلب من عدة محافظات شمالية، بما فيها اللاذقية وحلب، وهي مفتوحة على الحدود مع تركيا، ومن دون استعادة المحافظة التي تحولت إلى “مركز تجمع” لكل مقاتلي النصرة الهاربين من ساحات وجبهات أخرى، ستبقى “سوريا المفيدة” في قلب دائرة الاستهداف، وسيبقى نصر الأسد ناقصاً ومثلوماً.
و”النصرة” مشكلة موسكو أيضاً، ليس لأن قذائفها بدأت تنهمر على أهم قاعدة لروسيا خارج حدودها، بل لأن كل مشروع الكرملين في سوريا، مرتبط بالقضاء على النصرة، وفتح الطريق أمام مختلف الفصائل للانضمام بمسار أستانا –سوتشي... فـ”النصرة” بعد “داعش”، باتت التنظيم العسكري المعارض الأقوى بعد وحدات الحماية الكردية، في عموم الأراضي السورية، وهذا أمرٌ لا يمكن السكوت عليه طويلاً.
على أن مهمة محور موسكو – دمشق – طهران لن تكون نزهة قصيرة، لا ميدانياً ولا سياسياً ... ميدانياً، ووفق تقديرات أمريكية، فإن إدلب تحولت إلى أكبر “تجمع جهادي”، إذ لم يحصل أن وجد في بقعة جغرافية واحدة، هذا العدد الهائل من المقاتلين المجربين، مع عائلاتهم وذويهم، منهم من سيبحث عن “تسوية” و”مخرج”، ومنهم من سيقاتل حتى الرمق الأخير، من دون أن تكون لدينا منذ الآن، تصورات دقيقة عن “الحالة المعنوية” للتنظيم.
سياسياً، سيتعين على هذا المحور، أن يسير في حقلي ألغام، تركي وإسرائيلي، أنقرة ما زالت تعوّل على دور للنصرة يدعم حضورها في سوريا، وعلاقاتها بالجولاني يبدو أنها أكثر تشعباً مما نظن ويظن كثيرون ... وإسرائيل تبني حساباتها على “الاختيار بين أهون الشرين”، وهي ترى في “النصرة” تهديداً أقل بكثير من تهديد “حزب الله”، وتفضل التعامل معها على “الشيك” الحدودي، على أن ترى رايات الحزب الصفراء ترفرف على الضفة المقابلة من الحدود ... موسكو التي ترتبط بعلاقات وطيدة مع كل من تركيا وإسرائيل، ستكون مهمتها صعبة، عندما تحين لحظة “التوفيق” و”المواءمة” في حسابات الربح والخسار، والمصالح والضمانات، لكل فريق من الأفرقاء.