بقلم : عريب الرنتاوي
تلف “التيار المدني” في الأردني حالة من الغموض والالتباس، فهو من جهة ليس “تياراً” بكل ما تختزن الكلمة من معاني، وهو من جهة ثانية، فاقد لهوية سياسية وفكرية واضحة المعالم، إذ باستثناء بضعة شعارات عامة مشتركة، يكاد الحديث عن “هوية” فكرية وسياسية يبدو ضرباً من “المجازفة” و”التطيّر”… وهو من جهة ثالثة، وتأسيساً على ما سبق، غير قادر على رسم الفواصل والتخوم التي تقربه أوتباعده عن بقية التيارات الأخرى.
ولأن هذا “التيار” لا يمكن أن يتمايز إلا بالسجال مع التيارات الأخرى، أقله لتظهير قضايا التوافق والتفارق عنها، ولأن سجالاً كهذا، لم يبدأ حتى الآن، إلا على نحو محدود وفي سياق المناكفة أحياناً، وبالتركيز على خصم واحد من خصوم هذا التيار السياسيين، فقد أخفق هذا التيار حتى الآن، في ترك بصماته واضحة على المشهد السياسي والحزبي المحلي.
لن يكتب لهذا التيار النجاح في شق طريقه الخاص، بالاشتباك فقط مع “الحالة الإسلامية” في الأردن، كما تجسدها جماعة الإخوان والأحزاب المنبثقة عنها … لم نر لهذا التيار سجالات مع تيارات إسلامية حركية أخرى، أكثر تهديداً لمشروعه الإصلاحي، من نمط الجماعات السلفية، التي وإن كانت لم تنتظم بعد في حزب سياسي (أو أحزاب)، إلا أن تأثيرها في الشارع الأردني عموماً، يزيد عن تأثير الإخوان، أو لا يقل عنه في أحسن الحالات.
ويخطئ أركان هذا التيار إن هم ظنوا أن كل من يتصدى لـ “الإسلام الحركي” هو مشروع حليف، فالبعض (وربما الكثرة) من أركان “حزب رجالات الدولة” يفعلون ذلك، صبح مساء، بيد أن كثيرين منهم، هم أبناء مدرسة بيروقراطية كارهة للإصلاح السياسي ومناهضة للتحول الديمقراطي، والاستقواء بهذا الحزب، أو بعض أركانه، أو الاصطفاف معهم في مواجهة “الفزّاعة الإسلامية”، هو السبيل الأقرب لنهاية هذا التيار قبل انبثاقه، وربما لهذا السبب بالذات، ينظر الرأي العام إلى رموز هذا التيار، بوصفهم “رأس جسر” للسلطة السياسية، وليس كقادة لمشروع وطني ديمقراطي مستقل.
تحت شعار “التوافق” تنخرط شخصيات ورموز من هذا التيار في ائتلافات وتحالفات مع شخصيات “نقيضة” لها سياسياً وفكرياً، بيروقراطية أو عشائرية أو مقاولين كبار، وبعضها خاض الانتخابات النيابية بتحالفات من هذا النوع، وليس في ذلك أية مثلبة في الظروف الاعتيادية، خصوصاً حين تُبنى التحالفات على أهداف وغايات محددة، لكن مشكلة هذا التيار، أنه يفعل ذلك، من دون أن يتمكن تظهير هويته السياسية والفكرية، فيتماهى مع تحالفاته الجديدة، ويكاد يفقد لونه وطعمه ورائحته، فيصبح كالمنبت، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فلا هو احتفظ بهويته، ولا هو أفاد من تحالفاته لبلوغ النجاح، فكان حاله كحال عشرات الشخصيات الإسلامية واليسارية والقومية، التي ظنت (أو حاولت الإيحاء بذلك) أنها بمشاركتها في الحكومات، تتوفر على فرصة لترجمة رؤاها الخاصة،لكن ذلك لم يحصل، هنا يجدر التفكير جدياً بقواعد بناء التحالفات، بدءاً بالإجابة على سؤال: “من أنا” وصولاً إلى سؤال: من يشبهني، للانتهاء برسم دوائر متداخلة تتسع وتضيق لاستيعاب المشتركات مع بقية الأطراف واللاعبين.
وثمة أسئلة لم يشرع هذا التيار في طرحها حتى نقول إنه لم يتمكن من تقديم الإجابات عليها، ومن بينها تلك المتصلة بعلاقاته بأحزاب سياسية تدرج نفسها في خانة المدنية و”الوطنية الديمقراطية”، يسارية كانت أم قومية أم وسطية، فهل يمكن اعتبار هذه الأحزاب مكوناً من مكونات ما بات يعرف بـ “التيار المدني”، وإن كان الحال كذلك، فلماذا لا يجري الانخراط في صفوفها والعمل على تطويرها من داخلها، وإن كان الأمر بخلاف ذلك، فمن هي القوى المكونة فعلاً للتيار المدني، وبم تلتقي أو تختلف عن هذه الأحزاب؟
إن الحاجة ماسّة، لإطلاق وتطوير “تيار مدني – ديمقراطي”، يسعى في إعادة التوازن للخريطة السياسية والحزبية، فثمة مساحة “شاغرة” في المشهد المحلي، يتعين على التقدم لملئها … ولعل النجاح في هذه المهمة، يتطلب ابتداءً، الإجابة على سؤال: من هي مكونات هذا التيارات وحواضنه وروافعه الاجتماعية؟ … ما هي “هويته الفكرية والسياسية”، بم يختلف وبم يشترك مع بقية اللاعبين؟ … كيف يمكن التقدم إلى الأمام، على طريق بلورة وتظهير “قطب جديد” في الحياة السياسية والحزبية الأردنية؟ …. هل يمكن الحديث عن “تيار/ حزب/ اتجاه” واحد يمثل هذا التيار، أم أن المستقبل مفتوح على احتمال تبلور عدة أقطاب/ أحزاب تحمل اللواء ذاته، وإن بدرجات متفاوتة من الوضوح والتبلور؟ …ما هي ملامح برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وما هي قواعد وأولويات تحالفاته في المرحلة المقبلة؟
إن الحاجة ماسة كذلك، لإطلاق ورشة عمل وطنية مفتوحة، تسهم فيها مختلف الشخصيات والمجاميع التي تنتسب لهذه المدرسة في العمل السياسي والوطني، والشروع من دون إبطاء في طرح الأسئلة والبحث عن إجابات عليها، توطئة لبلورة خريطة طريق لاستنهاض مسار التحول الديمقراطي وانتشاله من حالة المراوحة والدوران في حلقات مغلقة.