عريب الرنتاوي
لم نكن بحاجة لمقالة فرانسيس فوكوياما الأخيرة في ”الإيكونوميست“، لندرك أن حقبة ”القطب الواحد“ في النظام العالمي، قد شارفت على نهايتها، فنحن في هذه البقعة من العالم، ”شهود أحياء“ على تفكك على بداية ”الهيمنة“ الأمريكية و“تفلّت“ حلفاء واشنطن وأصدقائها من الدوران في فلكها.
لكن أن تأتينا ”البشارة“ من صاحب نظرية ”نهاية التاريخ والإنسان الأخير“، وأن يستلحقها بنبوءة ثانية عن تعذر استعادة هذه الهيمنة، فمعنى ذلك أن البشرية برمتها، تتحضر لمغادرة نظام ما بعد الحرب الباردة، دون أن تنجح، حتى الآن على الأقل، في صياغة قواعد نظامها العالمي الجديد، القائم كما يتضح، على ”تعددية قطبية“، بعد أن تعذّر الإبقاء على نظام ”القطب الواحد“، واستحالت العودة لنظام القطبين الذي ساد العلاقات الدولية بين حربين: العالمية الثانية والحرب الباردة.اللافت للانتباه تماماً في مقالة فوكوياما، أنه يعزو أسباب تآكل الدور الأمريكي المهيمن عالمياً، للداخل الأمريكي، صحيح أن هناك قوى تصعد بتسارع على مسرح الاقتصاد والسياسة والإستراتيجيات الدولية، وصحيح أن حصة واشنطن من الإنتاج العالمي تراجعت من نصفه بعد الحرب العالمية الثانية، إلى قرابة خُمسه اليوم، لكن الصحيح كذلك، أن انقسامات الولايات المتحدة الداخلية، وتفاقم النزعات والنزاعات ”الهوياتية“ وحالة الاستقطاب التي أطلقتها إدارة ترامب على غاربها، تجعل واشنطن، أسيرة أزماتها المحلية، عاجزة عن إعطاء الوقت والجهد وتوفير الموارد للحفاظ على دورها العالمي المهيمن.
على أية حال، لم تكن كابول، وصور الانسحاب المخجل للقوات الأمريكية من مطارها، سبباً لتردي صورتها وهيبتها وقيادتها للعالم، كابول كانت ”كاشفة للعورات“ فقط، وما حدث فيها، لم يكن أشد ترويعاً وإذلالاً مما حصل في سايغون في العام 1975، لكن الهزيمة الأمريكية النكراء في فيتنام زمن الحرب الباردة، لم تمنعها من تحويل فيتنام ذاتها، زمن ”القطب الواحد“، إلى خندق متقدم لها في حربها على الصين وروسيا، داعميها الرئيسين في ”حرب التحرير الشعبية“.
حلفاء واشنطن وأصدقاؤها في المنطقة العربية، أخذوا يدركون على ما يبدو، ”الحقائق الجديدة“ في النظام العالمي، ونهاية حقبة الهيمنة الأمريكية، ويستشرفون بالتالي مخاطر استمرار ”اعتماديتهم“ على واشنطن في تدبير شؤونهم وحماية دولهم وتقرير وجهة حركتهم وتحالفاتهم… وهو الاتجاه الذي نما وتطور في الآونة الأخيرة، وفتح أبواب عواصم المنطقة الكبرى، لتفكير جديد، يتخطى منطق التبعية والاعتمادية بمعاييره وحساباته الضيقة.يشهد على ذلك، تباين مواقف واشنطن مع مواقف عواصم خليجية عدة، حيال أزماتالمنطقة المفتوحة، معظمها حتى لا نقول جميعها، من إثيوبيا وأزمتها الداخلية السائرة نحو سيناريو ”البلقنة“ كما يرجح بعضهم، مروراً باليمن والعراق وسوريا وليس انتهاء بأرمينيا وأذربيجان.
والحقيقة أن ظاهرة التفلّت من قبضة الهيمنة الأمريكية، سبق وضربت اثنين من أبرز وأهم حلفاء واشنطن في الإقليم: تركيا وإسرائيل.. الأولى، ذهبت بعيداً في تكريس استقلاليتها، وتفتيح شبكة تبادلاتها مع موسكو وبكين وطهران.. والثانية، يقول تقرير أخير صدر عن أحد أهم معاهدها الأمنية، بأن العلاقة الإسرائيلية الصينية هي من أهم ثلاث قضايا خلافية تباعد واشنطن عن تل أبيب، دع عنك حزمة التفاهمات الإسرائيلية – الروسية في سوريا وحولها.
واشنطن لم تعد قَدَر المنطقة المحتوم، وصاحبة القول الفصل في تقرير مستقبلها، ولكن ليس ثمة قوة دولية في المقابل، قادرة على ”وراثة“ دورها التاريخي المهيمن، وإلى أن تخترع البشرية نظامها العالمي الجديد، وتظهّر صورته ومعالمه وتبلور معاييره، ستبقى حالة انعدام الاستقرار، و“السيولة“ في العلاقات الإقليمية، ومعهما مختلف الأزمات المفتوحة، في علم الغيب.