بقلم ـ عريب الرنتاوي
من سجنه القابع فوق جزيرة إمرالي، يبدو عبد الله أوجلان، القائد الكردي الأكثر حضوراً، ليس بين أكراد بلاده تركيا فحسب، بل وعلى مساحة انتشار الأمة الكردية بأكملها ... من زنزانته التي قضى فيها ما يقرب من العشرين عاماً ينتزع الرجل تأييد أكثر من ستين بالمائة من كرد تركيا، ويسيطر مؤازروه وأتباعه على أكثر من ثلث مساحة سوريا... وفي الليالي الكردية الظلماء، عند اقتراب داعش من تخوم أربيل قبل ثلاث سنوات، أو وصول الحشد الشعبي إلى مشارفها، يستدعى “بدر إمرالي” على عجل، فهيبط مقاتلوه من الجبل إلى الخطوط الأمامية.
قبل بضعة أشهر، قلنا في هذه الزاوية، أن الشعب الكردي تتوزعه ثلاث زعامات: جلال طالباني، مسعود البرزاني وعبد الله أوجلان ... الأولى قضى بعد صراع طويل مع المرض، والثاني أطلق النار على أقدامه، فصار كالبطة العرجاء، والبعض يقول كالمنبت، الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، فلا هو حفظ مكتسبات الكرد، ولا هو جاءهم بالاستقلال ... وحده أوجلان يظل الزعيم الكارزمي لأكراد المنطقة عموماً، بعد عن عزّ الزعماء.
صوره غطت على خرائب الرقة، تلكم المدينة التي لا يماثلها في الخراب والدمار، سوى درزدن الألمانية زمن الحرب العالمية الثانية، والتي مُحيت على بكرة أبيها (لعلها الطريقة الوحيدة التي تدرسها المعاهد والكليات الحربية الأمريكية لكسب المعركة والانتصار في الحرب) ... صوره مرفوعة في كل مكان يجتمع فيه أكراد المنطقة والمهاجر ... به ترتبط الحركة الوطنية الاستقلالية الكردية، في مختلف مناطق الانتشار الكردي وليس في تركيا وحدها.
الرجل الذي يخوض منذ أكثر من عشريات ثلاث، حرباً ضروساً من أجل حقوق أبناء ملته في بلادهم (جبالهم)، لم يكل ولم يمل، ولم يتوقف عن إلهام الأكراد ... حتى أنه جعل من فترة سجنة المديدة فرصة لإجراء المراجعات السياسية والفكرية، فهو ذو الخليفة الماركسية – اللينينة، يتحول أكثر فأكثر نحو ضفاف الليبرالية الديمقراطية، والبعض يقول الديمقراطية الاجتماعية ... نظريته عن “الأمة الديمقراطية” أحلها محل النظرية الستالينية عن الأمم وتشكلها، ومحل نظريات “دولة الأمة” التي اقترنت بصعود الرأسمالية والتحول إلى السوق ... الرجل الملهم لشعبه، ما زال قادراً على انتاج الأفكار، حتى وهو في محبسه شديد الحراسة، وبرغم انقطاعه عن العالم، إنه لا يضيع وقتاً، ربما لأنه لا يمتلك ترفاً من هذا النوع.
تركيا تصنفه إرهابياً من طراز رفيع، أو ربما الإرهابي الأول، ينافسه على هذا اللقب شخص واحد فقط هو: فتح الله غولن ... لكن كثيرين في العالم، حتى في تلك الدول والحكومات التي أدرجت الرجل وحزبه على لائحة الإرهاب السوداء، لا تنظر إليه ولا تتعامل مع حزبه ومريديه على هذه الشاكلة ... هم “يسايرون” تركيا فقط لا غير، بيد أنهم في قرارات أنقسهم، يتبنون موقفاً مغايراً، ويستبطنون مقاربات أخرى.
واشنطن تجاري أنقرة، رسمياً في هذه المسألة، بيد أن حلفائها الأقرب والأخلص في سوريا هم أبناء واحفاد وتلاميد وحواريي عبد الله أوجلان ... البرزاني ناصبه العداء، إرضاء لشخصه ورغبته الجامحة بالزعامة، وتمشياً مع موقف حليفه الإقليمي الأوثق: تركيا، قبل أن تخذله الأخيرة بعد الاستفتاء، وتطوي صحفته مرة واحدة وإلى الأبد على ما يبدو ... بغداد لا تريده فهو يستجر كافة الذرايع ويضعها على طبق من فضة بين يدي أردوغان وحزبه وحكومته ... دمشق آوته ردحاً من الوقت قبل أن تبعده في العام 1998، واليوم تبدو علاقتها بـ “جماعته” شديدة الالتباس، فهي لم تقطع شعرة معاوية معهم، بيد أنها تخشى تطلعاتها وميولهم الانفصالية ونزعتهم التوسعية وتحالفاتهم المريبة.
لا يمكن اختزال الرجل بتوصيف واحد، كأن يقال أنه إرهابي وزعيم منظمة إرهابيةإمرالي، مع أن الـ “بي كه كه” قارف أعمالاً لا يمكن وصفها بغير الإرهابية، لكن كلاماً كهذا قيل عن ياسر عرفات، قبل أن يعترف به العالم كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وقيل عن نيلسنون مانديلا والمؤتمر الوطني، قبل أن يصبح زعمياً أممياً ورئيساً لجنوب أفريقيا والأهم كأيقونة للنضال من أجل الحرية والاستقلال في مواجهة الابارتهيد .... عبد الله أوجلان، لن يحتفظ بهذا التصنيف طويلاً، والتصنيف على أية حال لم يمنع المجتمع الدولي من التعامل مع أتباعه ومؤيديه بوصفهم مقاتلين من أجل الحرية، أقله في سوريا حتى الآن.
وإن أرادت تركيا حلاً لـ”المسألة الكردية” التي تستنزف طاقاتها ومواردها وأرواح أبنائها من الجانبين وتلطخ سمعتها، فلن تجد محاوراً آخراً غير أوجلان ... لم ينتج كرد تركيا زعامات متنافسة أو متناحرة مثل كرد العراق، وكل زعيم ينشأ، يحتاج إلى “مباركة” و”عمادة” من قبل “سجين إمرالي”... وعلى أنقرة أن تتعامل مع الأصل، بل التهلي بالصور والنسخ غير المزيدة وغير المنقحة.
لقد خطت تركيا خطوات كبيرة على هذا الطريق في زمن صعود أردوغان وحزب العدالة والتنمية لسدة السلطة والحكم، وقدمت للأكراد ما لم تقدمه أية حكومة منذ الجمهورية، لكنها أخفقت في أيصال عملية المصالحة والتسوية إلى خواتيمها، وتغلبت طموحات أردوغان الشخصية ورغبته في اجتذاب المزيد من أصوات الحركة القومية والطورانية إلى صناديقه، دوراً مهماً في إعادة المسألة الكردية إلى مربعها الأول ... وعاودت تغليب الخيار الأمني والعسكري في التعامل مع الملف الكردي على الملف السياسي/ الثقافي/ الاجتماعي، مع أنها تدرك بعد خبرة ثلث قرن من الصراع مع “أتراك الجبل” أن مسائل من هذا النوع، لا تحل بالطائرة والدبابة وإنما على مقاعد الحوار وحول موائد التفاوض.
ستظل تركيا، ودول الإقليم عموماً، تشكو حالة من انعدام الاستقرار ما لم يحظ الكرد بحقوقهم الفردية والجمعية، ومن الأفضل لدول الانتشار الكردي الأربع أن تختصر درب الآلام، وأن تجنح للخيارات السياسية والتفاوضية، إذ لا بديل عنها على الإطلاق ... وفي مطلق الأحوال، فإن عبد الله أوجلان، سيظل عنواناً كردياً، تركياً وإقليمياً، سواء انتهجت دول الإقليم خيار الحرب أو خيار السلام في التعامل مع أكراد بلادها، ولهذا فإن من الأفضل للجميع اختصار الزمن والجهد والتضحيات والبدء من “التفكير من خارج الصندوق”.