بقلم - عريب الرنتاوي
مضت خمس سنوات منذ أن أدرج كاتب هذه السطور على قائمة “قناة الجزيرة” السوداء، بعد أن كان ضيفاً دائماً على نشراتها الإخبارية وبرامجها الحوارية والتحليلية المختلفة ... سبب الحظر الذي طاله وعشرات غيره، أنه لم يكن من دائرة “المؤلفة جيوبهم” ولا “المتوقعة آراؤهم” ... الأزمة السورية، كانت مفصلاً حاسماً في علاقته بالقناة، كضيف ومشارك ومشاهد، من دون أن يعني ذلك أنه كان على وئام مع خطها التحريري في المسألة الفلسطينية، سيما في ذروة احتضانها، نيابة عن قطر، لمشروع فلسطيني يتحول اليوم أمام ناظرينا إلى مشروع إمارة مستقلة في قطاع غزة، برغم النوايا، طيبة كانت أم خبيثة، التي عبدت الطرق الموصلة إليه.
ولست من أنصار ما تدعيه القناة لنفسها وما يقوله العاملون فيها عنها، فهي لم تعد قناة الرأي والرأي والآخر ... الرأي الآخر بات يخضع لمعايير صارمة، أهمها وأولها خدمة “الرأي الأول”، رأي القناة ومن يقف وراءها وينفق عليها بسخاء ... ولقد رأينا غرف الأخبار واستوديوهات البرامج، تتحول إلى “غرف عمليات” في سنوات الربيع العربي الست، تنخرط مباشرة في “صياغة الحدث” من دون أن تكتفي بنقله والتعليق عليه وتحليله، وصياغة الحدث هنا، لها مدارس، بدت الجزيرة واحدة من أهمها على الإطلاق، ونقول “صياغة” في تعبير ديبلوماسي ملطف عن “فبركة”، والذاكرة حافلة بعشرات القصص والحكايا من سوريا وليبيا إلى اليمن والعراق مروراً بفلسطين ولبنان وغيرها.
على أية حال، ليس موضوع هذا المقال، تقييم قناة الجزيرة، ولا أنا بصدد تقديم شهادة شخصية عن علاقتي بها ضيفاً أو مشاهداً ... فتلكم مسألة أقل أهمية، قد نتناولها في قادمات الأيام وقد لا نفعل ... موضوع هذا المقال، هو مطلب الرباعي العربي بإغلاق القناة (وأخواتها وتابعاتها بغير إحسان) كشرط لرفع الحصار المضروب على إمارة قطر ... وهو مطلب قوبل باستنكار المنظمات الحقوقية والمدافعين عن حرية الصحافة والإعلام والرأي والتعبير، مثلما قوبل باستهجان حكومات غربية لم تجد طريقة لابتلاعه وهضمه.
نفهم أن تُطَالب الدوحة بالتدخل – كما تتدخل دائماً – في فرض نسق أكثر توازناً ومهنية في عمل القناة وأن تحرص على تفادي استضافة رموز مثيرة للفتنة ومحرضة على الكراهية والعنف ... ونفهم أن يجري التنبيه إلى خطورة تقاذف اللكمات وأكواب المياه في برامجها الحوارية بدلاً عن تبادل الأفكار والآراء ... لكننا لا نفهم أن تطالب القناة بإخماد الصوت المعارض في دولنا العربية، سيما حين لا يرتبط بممارسة العنف أو التحريض على ممارسته ... نريد للقناة أن تعود قناة للرأي والرأي الآخر، مأخذنا عليها أنها قلصت مساحة الرأي الآخر، وأقصت الأصوات التي تمثله في غير دولة وساحة، أو جعلت حضورها بائساً وضعيفاً وموسمياً ... نريد للقناة أن تعود مرآة للتعددية العربية.
نفهم أن يقال إنه لا يمكن لقناة ملؤها “اللون السياسي والإيديولوجي” المعروف إياه أن تكون مهنية واحترافية ومتوازنة وموضوعية في تقديم الخبر والتحليل واختيار الضيوف والموضوعات وأولويات التغطية وأجنداتها ... ولكن من ذا الذي يقبل أن يُلقى بألوف العاملين في القناة إلى قارعة الطريق، وحرمان ملايين المشاهدين من حقهم في متابعة أخبارها وبرامجها.
نفهم أن يجري الاعتراض على استضافة فلان أو علان من المتشددين ودعاة الفتنة والمحرضين على الكراهية والعنف، ولكننا لم نسمع صوتاً واحداً يعترض على استضافة القناة ذاتها، لمجرمي الحرب الإسرائيليين والناطقين باسم “جيش الدفاع” وأجهزة الاحتلال الأمنية .
من موقعي هذا، أعلن وبالفم الملآن، بأن “الأسباب الموجبة” للمطالبة بإغلاق الجزيرة، تجيز بالقدر ذاته، إن لم يكن بقدر أكبر، المطالبة بإغلاق العديد من القنوات، وإلا نكون قد أُصبنا بمرض “ازدواجية المعايير” الذي لا شفاء منه، فهذه الطينة من تلك العجينة، ولقد جاءت أزمنة على جميع هذه القنوات تحدثت فيه بلسان واحد حيال أكثر من أزمة من الأزمات المفتوحة في المنطقة، وثمة مشتركات في تغطية بعض الازمات ما زالت مستمرة حتى الآن.