بقلم : عريب الرنتاوي
سياقات ثلاثة، أنتجت وثيقة حماس، أو ميثاقها الجديد:
السياق الأول؛ الحركة تتطور، ولا ينبغي بحال التقليل من شأن هذا العامل، ومن يقارن ميثاق 1988 بميثاق 2017، يجد فوارق جوهرية في اللغة والمقاربة والنص... الحركة تخرج من كهوف النص الديني – الغيبي – المغلق إلى فضاء السياسة والعلاقات الدولية والقانون الدولي ... الحركة تهبط من علياء المقدس وتهويماته، إلى لغة السياسة والتحالفات والشراكات، لغة "الحزب الحاكم" أو كما تقول هي، لغة "حركة التحرر" التي لا تنتقص منها مرجعية الحركة الإسلامية.
السياق الثاني؛ الحركة تتكيف، فالحملة على جماعة الإخوان المسلمين ككل، عاتية جداً ... والموجة مرتفعة وتكاد تكون إعصاراً ... زمن الهدنات والتهدئات مع خصومها يكاد ينفذ، ومكانتها في الغرب تتناقص، وتكاد تقف على حافة اللوائح السوداء في كل من واشنطن ولندن وبروكسيل وغيرها ... في هذا السياق، يبدو وضع حماس أشد صعوبة من وضع الجماعة الأم، هنا يدخل العامل الإسرائيل على الخط، فيجيز لواشنطن التعامل مع "الأم" ومحاربة "الابنة" لا لشيء إلا "كرمى لعيون" الإسرائيليين، خصوصاً في زمن ترامب – كوشنر – جرينبلات – فريدمان ... حماس في قلب الجماعة، وفي قلب دائرة الاستهداف الأكبر ، فما الضير في انحناءة أمام العاصفة، والعاصفة عمرها ما يقرب من الأربع سنوات، هي بالذات عمر النقاشات والمشاورات التي أفضت إلى الميثاق الجديد.
والسياق الثالث؛ الحركة تتأهل، وإعادة تأهيلها عملية طويلة نسبياً، وتعود لعدة سنوات مضت، هذه المهمة يتولاها حلفاء حماس الأقربون هذه المرة: تركيا وقطر، وهي مزيج من الضغط والإغراء، ولقد كشف مولود جاويش أوغلو "ذات زلة لسان" في نادي الصحافة الأمريكية، عن ضغوط تمارسها حكومته على الحركة للاعتراف بإسرائيل والانخراط في مفاوضات معها ... الدوحة ليست بعيدة عن هذا التوجه، اللهم إلا إذا صدقنا روايات بعض الشيوخ والمفكرين العرب عن تحول العاصمة الخليجية الصغيرة، إلى "هانوي 2" أو "يثرب بعد الهجرة"، أو "ويستمنستر الشرق" وعاصمة الديمقراطية الأنجلو ساكسونية في الإقليم، هؤلاء يريدون لحماس أن تكون مشروعهم في فلسطين، إن نجحت في غزة، وقدمت البضاعة المطلوبة، فما المانع في تعميم "نجاحها" و"تجربتها" على الضفة، فتكون مرحلة "ما بعد عباس"، مصبوغة بهذا الطابع، سيما بوجود محاور إقليمية أخرى طامعة بالهيمنة على الورقة الفلسطينية، من محور القاهرة – أبو ظبي ومشروعه الدحلاني المُرجأ وغير المعطوب، إلى محور طهران – دمشق – الضاحية الجنوبية، ومشروعه "المقاوم والمُمانع".
هل تغيرت حماس؟ ... نعم تغيرت، ومن يقول بخلاف ذلك، لا يجيد القراءة ولا المواكبة ... حماس اليوم، في موقع منظمة التحرير في المنقلب الثاني من سبعينات القرن الفائت، عندما تحدثت عن "سلطة الشعب الوطنية المقاومة" على أي جزء يتم تحريره، دون صلح أو اعتراف، ودون انتقاص أو انتكاس عن حق العودة وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني ... حماس اليوم، تكاد تكون صورة مكبرة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ترفض أوسلو وتنخرط في مؤسساته وانتخاباته، تقبل بالدولة على حدود 1967 بوصفها برنامجاً مرحلياً، تعظم الكفاح المسلح ولا تمارسه، أو تمارسه ما ندر وحيثما سمحت الظروف وبالحد الأدنى الذي لا يضعها في صدام مع السلطة أو في مواجهة "كسر عظم" مع الاحتلال.
هل قبلت حماس بشروط الرباعية الدولية؟ الجواب نعم ولا ... هي اقتربت منها من دون أن تصل إليها ... القبول بدولة على حدود 67 يعني ضمناً الاعتراف غير المباشر بإسرائيل على بقية فلسطين التاريخية (معظمها)، وهذا هو الشرط الأول، والسعي لتهدئة مستدامة، وهدنة طويلة الأمد، مع كل مستلزماتها من ضبط الفصائل الأخرى وتأمين الحدود والسهر على الالتزامات، هي الطريقة الحمساوية لنبذ العنف، معطوفاً عليها ميل أكبر للقبول "بمختلف أشكال الكفاح"، وهذا هو الشرط الثاني ... والالتزام بالاتفاقات المبرمة، يناظره الانخراط في مؤسسات أوسلو وسلطتها وانتخاباتها، بل ووضع هذه المهمة، في صدارة أولويات الحركة، أقله خلال العشرية الأخيرة من السنين، وهذا هو الشرط الثالث.
حماس قطعت أكثر من نصف الطريق للقبول بشروط الرباعية الثلاثة، ما بقي أمر ثانوي إن خلصت نوايا الرباعية وخرجت من دائرة الابتزاز الإسرائيلي، الذي لا يقبل بأقل من رفع الرايات البيضاء، سيما عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، أصحاب الأرض والقضية والذاكرة الجمعية والحقوق... فيصح الاعتراف بإسرائيل، اعترافاً بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، ويصبح نبذ العنف، انخراطاً نشطاً في الجهد الأمني والاستخباري الإسرائيلي ضد نشطاء الشعب الفلسطيني، ويصبح القبول بالاتفاقات المسبقة، تواطئاً على كل الانتهاكات الإسرائيلية لهذه الاتفاقات، وتسليماً بالقراءة الإسرائيلية لنصوصها المبهمة و"غموضها البناء".
هل هي نهاية مطاف "تنازلات" الحركة؟ ... الحركة الوطنية الفلسطينية من قبل، قالت "نعم"، ولكنها سرعان ما انقلبت إلى "لا"، وظلت تقدم التنازل تلو الآخر، حتى انتهينا إلى ما انتهينا إليه ... حماس تسير على الطريق ذاته، ومن يريد من حماس أن يستثمر في الميثاق الجديد، ويقطف بعض "ثماره" ونتائجه، سيجد نفسه مدفوعاً لتقديم المزيد من الإيضاحات والشروحات، تبدأ عادة داخل الغرف المغلقة وبالأخص مع الوفود الاستطلاعية والاستكشافية الغربية، إلى أن تنتهي الحركة الإسلامية إلى ما انتهت إليه الحركة الوطنية الفلسطينية.
حماس التي غادرت دائرة الارتباط والتبعية للجماعة - الأم، كما يُفترض، تتحول إلى مشروع سلطة، وليس إلى مشروع حركة تحرر وطني ... في ظني أن الهدف من وثيقة حماس الجديدة، هو تأهيلها كمشروع سلطة، بديلة عن السلطة، أو بموازاتها... فحماس بمقدورها أن تكون مشروع "تحرر وطني" دون القبول بدولة على حدود 67، ولكن صعب أن تكون مشروع سلطة دون ذلك ... مشكلة فتح أنها تحولت إلى حزب سلطة ومشروع سلطة، ونسيت أنها حركة تحرر وطني، حماس تقارف الخطأ ذاته، أو هي على وشك أن تقارفه، ولن ينفعها تقديم "التحرير" على "الدولة" كما جاء في وثيقتها الجديدة ... لقد فعلت المنظمة ذلك من قبل وتراجعت عنه، وليس هناك أية ضمانة من أي نوع، بأن حماس لن تقع في المنزلق ذاته.
هل يعيد التاريخ نفسه، وهل سيأخذ صورة مأساة أم مهزلة؟
نعم، التاريخ سيعيد ذاته، ولكن بشروط غير مواتية أبداً للفلسطينيين، أما السؤال عمّا إذا كنا بإزاء مأساة أم مهزلة، فمن الصعب الإجابة عليه الآن، المرجح أن يأخذ الشكلين معاً، لكن الأمر المؤكد أن الوثيقة الجديدة، لا تستوجب هذه الاحتفالية ولا تستحقها، ولا أدري إن كان يتعين على الحركة وأنصارها تلقي عبارات التهنئة أم مشاعر المواساة ... أصدقكم القول، ينتابني شعور مختلط حيال هذا الأمر، سيما أن هذا التطور يأتي في سياق الضعف والتراجع والانكفاء، وطنياً وحمساوياً، وليس في سياق تنامي عوامل القوة والاقتدار والتقدم.