بقلم ـ عريب الرنتاوي
تقترب المنطقة من إغلاق ملف “داعش”، دولة وخلافة ومؤسسات ومناطق تحت السيطرة المسلحة ... لكن المنطقة على ما يبدو، تتحضر لسلسلة من الصراعات والحروب المتناسلة، استعداداً لمرحلة ما بعد داعش، ومن أجل ملء فراغها، لا تقل ضراوة عن المعارك التي خيضت ضد التنظيم الأكثر دموية في التاريخ الحديث للمنطقة والعالم بأسره.
في العراق، وقبل أن يودع العراقيون التنظيم بما يستحق في آخر معاقله، اندلعت موجة صراع غير مسبوقة منذ زمن الراحل صدام حسين بين العرب والكرد، كادت أن تفضي إلى إراقة شلالات من الدم، لولا الجراحة العاجلة التي أجراها قاسم سليماني في الإقليم، تناغماً مع تحرك حكومة بغداد، بيد أن الباب ما زال مفتوحاً أمام تجدد هذا الصراع واتخاذه أشكالاً أكثر حدة ودموية ... الكرد أرادوا ملء فراغ داعش في المناطق التي استرجعوها، بيد أن بغداد كانت لهم بالمرصاد، وبقية القصة معروفة تماماً.
لا ندري كيف سيتطور ملف الصراع السني – الشيعي في العراق، لكن الأمر المؤكد أن سنّة العراق، وبعد الفوز السريع وغير المكلف الذي سجلته حكومة العبادي في ملف كركوك والمناطق المتنازع عليها، باتوا أكثر ضعفاً، أقله بالمعنى النسبي للكلمة... محاولاتهم القيام بدور الوسيط في الصراع بين المركز والإقليم، سرعان ما تبخرت، إذ لم يكد موفدوهم العودة من رحلات الوساطة المكوكية بين السليمانية وأربيل، حتى كان الملف قد أغلق، وأغلق بإحكام... النصر في بغداد سيسجل لمن كان طرفاً في هذا الصراع وليس لمن كان وسيطاً.
أكراد سوريا، يقومون بدور مماثل، فهم من ملأ فراغ داعش على مساحة تفوق ثلث مساحة سوريا برمتها، وهم يتمددون يوماً إثر آخر، ويغذون الخطى من أجل الوصول إلى منابع النفط وحقول الغاز الغنية في البادية الشرقية، وعيونهم على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وقد سجلوا تقدما ملموساً، بدعم كثيف واشنطن، التي لا تريد لروسيا أن تسجل نصراً مبيناً في سوريا، ولا تريد لإيران دوراً متعاظماً على أرضها، وتسعى في تثبيت حصة لائقة لحلفائها في المنطقة.
فوق هذا وذاك، وعلى وقع احتدام الصراع الإيراني – الأمريكي، تسارع واشنطن إلى فتح ملف “المليشيات الإيرانية” التي تطالب بحلها أو عودتها إلى ديارها، على اعتبار أن الحرب على داعش، وضعت أوزارها ... لمثل هذا الموقف الذي يلتقي بمواقف محور عربي وازن، فضلاً عن إسرائيل، تداعيات خطيرة، ستظهر آثارها الجسيمة على الداخل العراقي والسوري، إن لم يكن على نحو فوري، ففي المدى القريب على أبعد تقدير، عندما تفتح ملفات “الانتقال السياسي” وإعادة التوازن للنظم والعمليات السياسية الجارية في البلدين المتجاورين.
تركيا لن ترفع الراية البيضاء، ولها مصالحها المعرّفة في سوريا والعراق على حد سواء، وهي إذ تبدي قدراً كبيراً من التناغم مع بغداد، إلا أنها ما زالت على الدرجة ذاتها من العداوة لدمشق ... دخولها في العمق السوري منذ درع الفرات وحتى إدلب، لم يكن خبراً ساراً لدمشق، والأخيرة تمايزت عن حليفتيها في موسكو وطهران واحتفظت لنفسها بحق نقد الدور التركي والمطالبة بإنهائه وتجريده من مظلة “أستانا”، ووصفه بالعداون المباشر والاحتلال البغيض ... لكن تركيا لا تصغي لما تقول دمشق، وهي مرتاحة لتطور علاقاتها مع موسكو، ومطمئنة إلى “تحالف الضرورة” مع طهران، وهي ماضية في تقطيع أوصال أي كيان كردي سينشأ على حدودها الجنوبية، وتلكم لوحدها، قضية ستتناسخ عنها، نزاعات وصراعات وتحالفات شديدة التعقيد.
السعودية التي خرجت من الأزمة السورية من بوابة فشل المعارضات التي راهنت عليها، تجرب العودة إليها من شباك قوات سوريا الديمقراطية، فلا الجنوب عاد جبهة مواتية للرياض ولا حلب والشمال بات ملعباً للقوى المؤيدة لها ... لكن الاقتراب كثيراً من أكراد سوريا، يعني إعلان حرب مضمر، وربما صريح على أنقرة، وهذا بدوره سيعقد ملف العلاقات الخليجية – التركية، وسيصب مزيداً من الزيت على نار الأزمة الخليجية المحتدمة، بالنظر لتحالف تركيا الوثيق مع قطر، فضلاً عن ذيول وتداعيات أخرى، لا نعلم بها من الآن.
إيران التي بنت لنفسها منازل كثيرة في العراق وسوريا، ودفعت أفدح الأثمان لتطوير وتعزيز دورها الإقليمي، وقدمت المال والسلاح والجند على مذبح هذا الدور، ليست أبداً بوارد أن تتخلى عن “استثمارها المكلف” في الأزمتين، والأرجح أنها ستقاتل حتى النهاية، ضد جميع المحاولات والأطراف الساعية في “قصقصة” أجنحتها، والحد من نفوذها وتأثيرها ... إيران ستمضي في سياسة ملء فراغ داعش، حتى لو كلفها الأمر، خوض حرب السنوات العشر القادمة، من دون توقف.
خلاصة القول، أن صراعات ما بعد داعش في المنطقة، لا يبدو أنها ستكون أقل حدة وتفاقما، وربما دموية، من معارك الحرب الكونية على التنظيم، والأرجح أن المنطقة ستمضي في حالة عدم الاستقرار حتى إشعار آخر، هذا إن لم تنضم دول ومجتمعات جديدة، إلى دائرة الفوضى غير البناءة، سواء على خلفية حروب المحاور أو بفعل صراع الهويات أو على خلفية تآكل دور النفط وتراجع عائداته، وما لها من تداعيات وانعكاسات خطيرة، ليس على الدول المنتجة وحدها بل والدول المحيطة بها كذلك.