بقلم - عريب الرنتاوي
يبدو الرئيس الفلسطيني محمود عباس محتاراً بين خيارين: أن يعقد المجلس الوطني من دون حماس، أو أن يبقيه معلقاً إلى أن تنتهي “نوبات” الحوار الوطني الفلسطيني إلى نتيجة توافقية، قابلة للترجمة والتنفيذ ... لكن حيرة الرئيس، ومعه القيادة الفلسطينية بمختلف مكوناتها، لا تتوقف عند هذا الحد، فإن هو قرر الأخذ بخيار عقد المجلس، ستقفز أمامه مشكلة أخرى: تشكيل مجلس جديد، أم دعوة المجلس القديم أو من تبقى من أعضائه بفعل الوفاة الطبيعية؟ ... وهذه بدورها ليست خاتمة المطاف، فإن هو قرر المجيء بمجلس جديد، فممن يتشكل وكيف سيتم اختيار أعضائه؟
لا خيارات سهلة أمام الفلسطينيين، لا في صراعهم مع عدوهم التاريخي، وفي مسعاهم لترتيب بيتهم الداخلي، الذي بات ضرورة تتصدر جميع الضرورات والأولويات، ولكن لا بد مما ليس منه، ولا بد من أخذ زمام المبادرة ومغادرة مربع المراوحة، وفي الحالة التي نحن بصددها، فلا مندوحة من تجديد الشرعيات الفلسطينية، وضخ دماء جديدة وطازجة في عروق وشرايين الحركة الوطنية الفلسطينية المتيبسة، والطريق إلى ذلك يبدأ بمنظمة التحرير الفلسطينية، لا بالسلطة ولا بغيرها، فهي العنوان والهوية والوطن المؤقت إلى أن يتم تحرير الوطن المحتل والمحاصر، أقول ذلك بالضد من أجندة الإصلاح الشائعة، التي تبدأ عادة بالسلطة وتنتهي بالمنظمة، الصورة انقلبت والأولوية اليوم كما كانت بالأمس، للمنظمة وليس لسلطة لا سلطة لها.
في عالم آخر، مثالي بامتياز، فإن السيناريو الأفضل للفلسطينيين هو عقد المجلس الوطني بمشاركة جميع القوى والتيارات والألوان التي تتوزع الشعب الفلسطيني، وأن تتم المسألة برمتها بطرق ديمقراطية شفافة ونزيهة، بحيث يحصل كل تيار وجماعة، على ما يستحق من مقاعد وتمثيل، من دون تهميش أو هيمنة، من دون إقصاء أو محاباة ... لكن الفلسطينيين، لم يكونوا يوماً محاطين بهذه العوالم المثالية، ولذلك لا بد من الانتقال إلى السيناريو الأكثر واقعية والأقل سوءاً.
في الحالة الفلسطينية الراهنة، أرى أن يقدم الرئيس على تحديد موعد بعيد نسبياً (ستة أشهر على الأقل) لإجراء انتخابات لمجلس وطني فلسطيني جديد، يُطلب خلالها لهيئة الانتخابات أن تشرع في اتخاذ ما يلزم من إجراءات، وتُمنح الأطراف المختلفة، فترة ستة أسابيع على الأكثر لحسم أمر المشاركة أو المقاطعة، ويجري انتخاب ممثلي التجمعات الفلسطينية حيثما أمكن، في الضفة الغربية والقدس وغزة، وليتحمل الطرف المسؤول عن إعاقة الانتخابات كامل المسؤولية عن العرقلة أمام شعبه، ويجري اختيار ممثلي التجمعات التي حيل بينها وبين حقها في ممارسة الانتخاب بالتعيين، وبطرق شفافة ومعايير جماعية ومتفق عليها، يمكن أن نتحدث عنها في وقت لاحق.
في لبنان، إجراء الانتخابات يبدو أمراً ممكناً، وقد أجرينا “تمريناً ذهنياً” حول هذا الموضوع، ومع مختلف الأطراف الفلسطينية واللبنانية الفاعلة، وكانت النتيجة أن التعامل مع قيادة فلسطينية منتخبة وشرعية، خير للبنان من التعامل مع قيادات مفروضة ومتصارعة فيما بينها، ينكر أحدها عن الآخر شرعيته ... وفي سوريا، وبقليل من التواصل مع دمشق، يمكن فعل ذلك، أقله لمن تبقى من الفلسطينيين هناك والعلاقة مع النظام السوري تسمح بذلك... وفي الأردن، ثمة ما يربو عن السبعمائة ألف فلسطيني بلا هوية أو رقم وطني أردني، هؤلاء يتعين إشراكهم في اختيار ممثليهم للمجلس الوطني، وليس ثمة ما يدعو الأردن والأردنيين للاعتراض أو التحسس، طالما أنها ليسوا مواطنين، ولا يشاركون في الانتخابات العامة الأردنية ترشيحاً أو تصويتاً، وفي العديد من دول المهاجر والشتات والمغتربات، ثمة فرص جدية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة، فلنجرؤ على فعلها، ولو مرة واحدة بعد أزيد من ستين عاماً على انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة... وفي مطلق الأحوال، سيكون التعيين وفق المعايير المذكورة سابقاً، هو البديل عن الانتخاب في حال تعذر إجراؤه، ولكننا نرفض القول المسبق بأنها متعذرة، وقبل أن يبذل أي جهد، وحتى قبل إجراء أي مكالمة هاتفية مع المسؤولين وصناع القرار في الدول ذات الصلة.
سيقال إن خطوة كهذه ستكرس الانقسام بدل أن تعمل على تجسير الفجوات، في ظني أن هذه الأطروحات باتت متقادمة للغاية، وقد سمعناها في السنوات العشر الماضية مراراً وتكراراً، ولو أن قيادة المنظمة شكلت مجلساً وطنياً جديداً منذ بداية الانقسام، لكنا نبحث اليوم في مكان وتاريخ عقد المجلس الثالث بعد الانقسام ... المنظمة سابقة لحماس، ولا ندري، فقد تصبح لاحقة لها كذلك، والمنظمة هي الكيان السياسي – الوطني – القانوني للشعب الفلسطيني، ولا يجوز بحال ربط أمر إحيائها وبعثها بقبول هذا الفصيل أو رفض ذلك، فإن شاءت حماس فلتلتحق بالانتخابات، ونحن نشدد على وجود أن تكون شفافة ونزيهة، وإن شاءت فلتقاطع هذه المرة كما قاطعت انتخابات أخرى من قبل، ولها الحق كما لفروغ الإخوان المسلمين في العديد من الدول العربية، أن تقاطع حيناً وأن تشارك أحياناً في هذه الانتخابات أو تلك ... يجب الفصل بين قبول حماس أو عدمه من جهة، والحاجة الماسة لتجديد منظمة التحرير وإعادة بعثها في أوساط شعبها، في الوطن المحتل والمحاصر أو في الشتات.
لو أن حماس استشعرت من قبل جدية التوجه لتجديد مؤسسات المنظمة بدءاً من مجلسها الوطني، لما ظلت على استنكافها، ولكن من ذا الذي يبدي حماسة للالتحاق بجسد ميت؟ ... ثم من قال إن المصالحة يمكن أن تتحقق في غضون شهر أو اثنين، سنة أو اثنتين، لنبادر لعقد مجلس وطني جديد، وستأتي حماس إن لم يكن من الدورة الأولى ففي الثانية على أبعد تقدير، وتذكروا أن الانقسام دخل عقده الثاني، وكم من السنوات انتظرنا، وكم منها علينا أن ننتظر، قبل أن يتصاعد الدخان الأبيض من “مدخنة” مجمع الكرادلة المقدس.
مطلوب المبادرة إلى عقد مجلس وطني جديد، تسبقه انتخابات للمنظمات والاتحادات والنقابات الشعبية الفلسطينية، لتجديد شرعيتها وشبابها هي الأخرى، وهي التي شاخت وهرمت وترهلت، بعد أن كانت رافداً حاسم الأهمية من روافد المقاومة والعمل الوطني الفلسطيني، وأن نترك خلفنا صيغة “التمثيل الفصائلي” فالشعب الفلسطيني بغالبيته الساحقة، خارج هذه الفصائل، بل ولا يسمع بكثير منها، ويحتفظ بصورة بائسة عن صورتها الشائخة والذابلة والمتآكلة.
الطاقات الكبرى للشعب الفلسطيني موجودة خارج فصائله، وعلى القيادة الفلسطينية أن تبحث عن مختلف الأشكال والأدوات والوسائل، لإدماج هذه الطاقات بمنظمة التحرير، بدل إعادة تدوير طبقة سياسة، تنتمي لماضي الحركة الوطنية وليس لمستقبلها.
اعملها يا “أبو مازن” وتوجه بكل جد وثبات، نحو مجلس وطني جديد، يشتمل على مختلف المكونات والطاقات، خصوصاً من خارج الفصائل، واحرص على مراعاة أفضل معايير الديمقراطية والشفافية وتكافؤ الفرص عند تشكيله، فإن تردد أحدهم أو استنكف، لغاية في نفس يعقوب واحدٍ أو أكثر من يعقوب، فتلك مشكلته، أما مشكلة شعبنا، فتكمن في بحثه اليائس عن ممثله الشرعي الوحيد، وتفشي واستطالة حالة التيه التي يعيشها منذ سنوات طوال، وأحسب أن أعظم مهمة يمكن أن يتوّج بها الرئيس إرثه الشخصي، هي تجديد شرعية المؤسسة الفلسطينية، وفتح الباب أمام الجيلين الثاني والثالث للنكبة، لحمل راية الكفاح الفلسطيني التي لا نرى أنها سترفع قريباً على مآذن وكنائس القدس، فمشوار الشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال، ما زال طويلاً ومؤلماً، بل وربما يكون طويلاً جداً ومريراً للغاية.