بقلم - عريب الرنتاوي
وضعت تركيا لنفسها هدفاً استراتيجياً في سوريا، يتمثل في منع قيام كيان كردي مستقل، فما من تصريح أو “تقدير موقف” يصدر عن المستوى السياسي أو الأمني التركي، إلا وينطق بهذه العبارات، وإن بـ “نبرات” متفاوتة، أشدها حماسة و”ثوروية” تلك الصادرة عن الرئيس رجب طيب أردوغان، وبحكم شخصيته الانفعالية والنزقة.
لكن “الكيان الكردي” في طريقه للتشكل حجراً فوق حجر، وكلما أمعنت أنقرة بالجأر بالشكوى والتهديد، كلما رد عليها أكراد سوريا بلغة متحدية تضج بالتلويح بالويل والثبور وعظائم الأمور ... سيما بعد أن حسمت واشنطن أمرها، وقررت الاعتماد على الحليف الكردي، بدل التركي، في الحرب على داعش ومعركة الرقة، مستجيبةً بذلك لإلحاح أردوغان شخصياً حين طلب إلى واشنطن الأخذ بواحدٍ من خيارين لا ثالث لهما: إما التحالف مع تركيا بكل اقتدارها، أو الاعتماد على عصابات كردية مصنفة إرهابية في القاموس التركي.... أمريكا قررت واختارت الأكراد لكن تركيا ما زالت حائرة، بل وغارقة في ضجيج التصريحات النارية التي تصدر عن الرئيس التركي، وغالباً أمام الحشود الجماهيرية التي يعشق مخاطبتها.
مشكلة السياسية التركية في سوريا، بل وفي الداخل التركي كذلك، لا تكمن في وضوح الهدف بل في غموض الوسائل واضطراب السياسات والتنقل الانتهازي قصير النظر بين المحاور والتحالفات .... أنقرة تدرك أن واشنطن ماضية في رعاية كيانية كردية مستقلة أو قابلة للحياة، وأن عقارب الساعة الكردية في سوريا لن تعود إلى الوراء، ولن تظل مضبوطة على توقيت دمشق أو أنقرة، ولكنها مع ذلك تريد تحقيق هدفها في سوريا بالتحالف والتعاون من حلفاء خصومها ورعاتهم الدوليين.... تركيا تعرف أن مصدر القوة الرئيس لوحدات الحماية و”قسد” إنما يتمثل في الدعم الأمريكي المفتوح، بيد أنها ما زالت تتحرك ضمن هوامش مناورة تضيق يوماً بعد آخر، متروكة لها من قبل البيت الأبيض، ومن باب حفظ شعرة معاوية، وفي إطار سياسة احتواء الخلافات بين الحلفاء.
ثمة طريق واحد، لا ثاني له على أنقرة أن تسلكه إن هي أرادت قطع الطريق على الكيانية الكردية الناشئة، وهو خيار لم تجربه من قبل، ولا يبدو أنها في طريقها لفعل ذلك قريباً، وأعني به الانفتاح على محور طهران – دمشق حصراً، ومن دون روسيا إن تطلب الأمر، فالأخيرة، لا تبتعد مواقفها من المسألة الكردية عن مواقف واشنطن ... ذلك أن جهدا سياسيا- ميدانيا منسقا مع هاتين العاصمتين، وحده يمكن أن يساعد أنقرة في تحقيق هدفها الاستراتيجي في سوريا.
فطهران، لها مشكلة مع أكراد بلادها، وهي لا تخشى مثل أنقرة، من انعكاسات قيام كيان كردي سوري على أكراد إيران، ودمشق، التي وإن احتفظت بشعرة معاوية مع أكرادها، إلا أنها تخشى تطلعاتهم الانفصالية واستعجالهم بناء أسس كيان قابل للحياة بعيداً عن المركز ... وليس من بين دول الإقليم الأخرى، دولة واحدة، يمكن أن تشاطر أنقرة مخاوفها وهواجسها الكردية، بذات الدرجة من الحماسة التي يمكن أن تبديها طهران ودمشق، وحول هذا الملف بالذات.
لكن كلفة هذا التحالف باهظة للغاية، وقد تفضي إلى انهيار علاقات تركيا بالولايات المتحدة، وتأزيمها مع إسرائيل، وتوتيرها مع دول أوروبا والإقليم ... وربما هذا ما يبقي أنقرة في مربع المراوحة والتردد ... لكن تسارع وتيرة التطورات والأحداث على جبهات الشمال السوري ومحاوره، سيملي على تركيا المفاضلة بين خيارين: المجازفة بقيام كيان كردي على حدودها الطويلة مع سوريا، أو الانتقال من العداوة إلى التعاون مع طهران ودمشق.
تركيا اعتقدت، ولا تزال تعتقد، أن بمقدورها أن تشق طريقاً نحو “خيار ثالث”، كأن تقوم هي، وبالاعتماد على قواها الذاتية والفصائل المحسوبة عليها، بالعمل لمنع قيام كيان كردي مترابط ... هذا كان هدف عملية “درع الفرات” من جرابلس حتى أطراف منبج ... وهذا هو الهدف اليوم لعملية “سيف الفرات” التي تحشد لها تركيا والتي يراد بها”سلخ” عفرين عن بقية الجغرافيا الكردية ... هذا الخيار مكلف لتركيا، إذ يضعها في مواجهة مباشرة مع الأكراد والأمريكيين الذين ردوا من قبل بعملية “غضب الفرات”، وقد يردون من بعد بعملية مماثلة، وربما يضعها أيضاً في مواجهة مع الروس الذين تربطهم بالأكراد علاقات قوية، ومن خلف كل هؤلاء النظام السوري وحلفاؤه، ومن دون تورط تركي من الرأس حتى أخمص القدمين في الرمال السورية المتحركة، سيصعب على تركيا الإفلات بمجازفتها هذه.
مشكلة تركيا، في نظرتها لأكراد سوريا وأكرادها، أنها جعلت منهم “ملفاً أمنياً” فقط، وربطت الحركة الكردية بكل مكوناتها واتجاهاتها، في خانة الإرهاب ... وهذه المقاربة المتطرفة والمُخلّة، لم تجد من يشتريها لا في الشرق ولا في الغرب، الأمر الذي أبقى أنقرة معزولة تماماً في حربها المفتوحة على أكرادها وأكراد سوريا .... وما لم تتبن تركيا مقاربة سياسية - ثقافية –اقتصادية - اجتماعية، تتعامل مع الأكراد كمكون قومي، في تركيا وسوريا والعراق وإيران، له حقوق كفلها القانون الدولي وشرعة حقوق الانسان وحق تقرير المصير، ستظل تتخبط لأربعين عاماً قادمة، في المستنقع الذي وجدت نفسها غارقة فيه منذ قرابة الأربعين عاماً.