بقلم : عريب الرنتاوي
حظي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بما أراد بعد تصويت 51 بالمائة من الأتراك بـ "نعم" لصالح الدستور الجديد لتركيا الذي سيبدأ بالعمل به بعد عامين ... لا شيء "واقعياً" سيتغير، فالرجل يمارس صلاحياته المطلقة، من خارج الدستور الحالي بعد أن ضرب به عرض الحائط... كل ما في الأمر، هذه الصلاحيات الموسعة، قد جرت "دسترتها" والمهمة التي تتصدر جدول الأعمال الآن، تتمثل في ضمان انتخاب "السلطان" لولايتين حتى العام 2029.
نصف الأتراك، أكثر قليلاً قالوا "نعم" للدستور الجديد، لكن نصفهم الآخر، أقل قليلاً، قالوا "لا" لحكم الفرد الواحد، نجح أردوغان في كل الانتخابات والاستفتاءات، بنسب راوحت ما بين 40 – 50 بالمائة من أصوات الأتراك، لكنه من بين زعماء قلائل في العالم، يرتبط فوزهم، بأعلى درجات التصعيد والتوتير والاستقطاب ... لا تنتهي الانتخابات والاستفتاءات في تركيا بشكل طبيعي، غالباً ما تترك ندوباً تصعب معالجتها في صميم البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلاد ... هذه ظاهرة فريدة، يتعين دراستها، فما نفع أن يفوز زعيم أو حزب وتخسر البلاد تماسكها ونسيجها الاجتماعي؟
في الانتخابات النيابية قبل الأخيرة، أخفق الحزب الحاكم في الحصول على ما يكفي من المقاعد في البرلمان، لتشكيل الحكومة منفرداً ... تفتقت عقلية الرئيس وحزبه عن فكرة جهنمية مفادها: تعطيل مسار المصالحة مع الأكراد، وشن حرب ضروس عليهم، من أجل "شد العصب القومي" التركي، بعد أن فشل الخطاب الإسلاموي، بطبعته السنيّة في تأمين قاعدة اجتماعية كافية لتجديد حكم الحزب الواحد .... في الانتخابات المبكرة التي تلتها بعد أقل من نصف عام، كان الحزب وزعيمه، يحصدان ملايين إضافية من أصوات القوميين الأتراك والطورانيين، وكان لهما ما أرادا.
وعشية الاستفتاء، اشتدت الحاجة أيضاً لـ "شد هذا لعصب" من جديد، الحرب على الأكراد لم تعد كافية لضخ ما يكفي من الأصوات المؤيدة للزعيم والحزب، فكانت الحرب المفتوحة على أوروبا، الرجل المريض، وما رافقها من حملات هستيرية تقارب "الهذيان" ضد ألمانيا والنمسا وغيرهما، واتهامات بالنازية والفاشية ... كانت تلك حملة ضرورية من جديد، من أجل ضمان الفوز بالاستفتاء ... أردوغان لا ينتعش إلا في الأزمات، وقاعدته الجماهيرية لا تتجدد إلا بمواجهة "الآخر" والعمل على تحطيمه، والأخر هنا، يمكن أن يكون شريكاً في الوطن، او "عدواً خارجياً" وهمياً أو مختلقاً ... المهم أن يكون هناك "عدو" ينفع كشماعة لتجديد المخاوف والحضور ورفع درجة الاستنفار والجاهزية ... هكذا هو على أية حال، حال الأحزاب المدججة بالأيديولوجيات، إسلامية كانت أم غيرها.
لكن "نصر" أردوغان وحزبه، بدا باهتاً، بل ويمكن القول أنه "نصرٌ بطعم الهزيمة"، فالفارق بين المؤيدين والمعارضين ضئيل للغاية هذا من جهة، ومن جهة ثانية، تشير الأرقام إلى أن إجمالي الأصوات للأحزاب المؤيدة للدستور الجديد قد هبطت بإحدى عشرة نقطة عن آخر انتخابات نيابية، ما يعني أن عدداً كبيراً من الأصوات المؤيدة للعدالة والتنمية والحركة القومية، قد انتقلت إلى الخندق الآخر ... والزعيم والحزب من جهة ثالثة، فقدا قواعدهما في المدن الكبرى التي صوتت بـ "لا" للتعديلات الدستوري، وكان الريف والأطراف بمثابة الخزان الذي نهلا منه أصوات الداعمين، ما يشي بحدوث تبدلات في بنية "القواعد الاجتماعية" للحزب، الذي حظي ذات يوم، بتأييد قطاعات واسعة من الأمة التركية، وحصد أصوات إسلاميين وعلمانيين وطبقة وسطى ورجال أعمال ومهنين ومثقفين ...
الصورة الآن، تتغير، وعلى نحو مخيف، فغالباً ما ينطلق الخطاب "الشعوبي" من هذه البيئات الاجتماعي، وفي أحيان كثيرة، يتحول إلى خطاب فاشي إقصائي وإلغائي... ومن جبهة رابعة، قد يسجل الاستفتاء سابقة تركية في الطعن والتشكيك بنزاهة الانتخابات و"شرف صناديق الاقتراع"، في بلد اعتاد أن يفخر بنزاهة انتخاباته وشرف صناديقه، بصرف النظر عن تعاقب الحكومات المدنية والعسكرية، ثمة شكوك وطعون واتهامات، لا ندري أين ستصل وكيف سيجري التعامل معها، سيما في ضوء الفارق الضئيل في نتائج المعسكرين المتنافسين.
لا ندري حتى الآن، كيف ستنعكس نتائج الاستفتاء على مواقف أنقرة وسياساتها وعلاقاتها الخارجية، وما إذا كان الرجل الذي تحقق له ما أراد، سيتجه نحو سياسات تصالحية مع الداخل، أم أنه سيظل في حالة اهتياج سياسية ضد خصومه من علمانيين وأكراد وحتى بعض التيارات المحافظة ... لا ندري كيف ستنعكس هذه النتائج على الحراك الحزبي في تركيا، هل سيظل الحزب الحاكم على حاله، وماذا بشأن الحركة القومية، وهل ستنجح المعارضة في الإفادة من حالة القلق والانفضاض من حول هذين الحزبين، لتجديد حضورها وتطوير أدائها ... أسئلة وتساؤلات تصعب الإجابة عليها، مع زعيم وحزب، اختبرا مختلف أشكال التقلبات والاستدارات، وفي ظل قيادة لا تتورع عن شن أعنف حروب الداخل والخارج، سياسياً وعسكرياً، طالما كان ذلك مطلوباً لبقائها في السلطة، وتجديد وتمديد الحضور.
تركيا في العشرية الأولى لحكم العدالة والتنمية، نهضت كنموذج لحزب نجح في إحداث المصالحة التاريخية من الإسلام والتقدم، الإسلام والعلمانية، الإسلام والديمقراطية، الإسلام والتنمية الاقتصادية ... فهل ستقدم في السنوات القادمة، نموذجاً للتوظيف "الآداتي" للديمقراطية وصولاً للاستبداد، هل تقدم درساً حول تعذر انتقال الإسلام السياسي للحرية والديمقراطية، من تلقاء ذاته، ومن دون أن تتوفر في موازاته ومواجهته، قوى وجماعات، من داخل الدولة والمجتمع، تمنع انتكاسته ونكوصه إلى الشمولية والاستبداد؟ ... تركيا على ما يبدو، تصر على إعطاء الدرس ونقيضه.