بقلم : عريب الرنتاوي
لا يملك الأردن ترف الاستنكاف عن الانخراط المباشر في أية ترتيبات وإجراءات تستهدف حفظ أمن واستقرار منطقة "تخفيف التصعيد" في درعا وجوارها ... الأردن استثمر الكثير من الجهد والوقت والموارد في خلق بيئة صديقة جنوباً، تشكل "وسادة" لحفظ أمنه واستقراره، بعد أن تحولت هذه المنطقة، إلى بؤرة جذب للجماعات الإسلامية المتطرفة المسلحة، وفي مقدمتها "داعش" و"النصرة" ومن دار في فلكيهما من عصابات "جهادية".
"التوافق" هي كلمة السر لكل ما يتعين اتباعه من سياسات واتخاذه من إجراءات في تلك المنطقة، وقد جاءت مقررات "أستانا 4"، لتجعل ما كان صعباً ومستعصياً، أمراً ممكناً ... وتحت مظلة اتفاق المناطق الأربع، سيكون بمقدور الأردن، إطلاق جهد سياسي ودبلوماسي منسق مع الأصدقاء والحلفاء، بمن فيهم روسيا، وأساساً روسياً، من أجل جعل هذا "التوافق" حقيقةً قائمة على أرض المحافظات الجنوبية للجارة الشمالية.
و"التوافق" هي المرادف، للمظلة وشبكة الأمان الإقليمية والدولية، التي ستجعل قرار إرسال مراقبين إلى جنوب سوريا، أمراً غير محفوف بالكثير من المخاطر (المخاطر ستبقى دائماً موجودة) ... صحيح أن الموقف الأردني الرافض لإرسال قوات برية على الأرض ما زال سارياً وصائباً، بيد أن الصحيح كذلك، أن المسألة بعد "أستانا 4" باتت مختلفة عمّا قبلها، إذ لن يكون مطلوباً إرسال قوات كبيرة لآجال طويلة الأمد في جنوب سوريا، وليست وظيفة هذه القوات الاصطدام بالجيش السوي وحلفائه ولا بفصائل مسلحة جنوبية، الصورة تختلف الآن، تماماً، من حيث طبيعة المهمة وتفويضها وآجالها وسياقاتها.
والوجود الأردني في حال تقرر نشر مراقبين، والانتقال من موقع "المراقب" في مسار أستانا إلى موقع "الضامن"، لن يكون منفرداً ... ستكون هناك قوات من دول أخرى، تعمل تحت مظلة توافق روسي – أمريكي، يتعين سبر أغواره، والتأكد من مدياته ومستويات وديمومته ... بمعنى آخر، المشاركة الأردنية في حفظ أمن منطقة "تخفيف التصعيد" الجنوبية، ستندرج في سياق إقليمي – دولي، من المرجح أن يكون عامل دفع كبير باتجاه حل سياسي مستدام للأزمة السورية.
على أن ذلك، لا يعني أنه بمجرد الإعلان عن اتفاق المناطق الأربع، فإن الطريق قد بات سالكاً وآمناً أمام قيام وتثبيت المنطقة الجنوبية ... هناك تحديات جوهرية لم تغب ولن تغيب عن أذهان صناع القرار السياسي والعسكري والأمني الأردني ... منها وأهمها، أن في هذه المنطقة، وجود وزان لجماعات إرهابية، وفقاً للتصنيف الأردني وليس للتصنيف الأممي فحسب، في طليعتها "داعش"، ممثلاُ بما يسمى "جيش خالد بن الوليد"، فضلاً عن جبهة النصرة التي تحتفظ بنفوذ وشبكة علاقات مع فصائل أخرى، فضلاً عن "الحبل السري" الذي يربطها بإسرائيل عبر شطري الهضبة السورية المحتل منها والمحرر.
وغير بعيد عن هذه المنطقة، ترابط قوات حليفة للنظام السوري، وغير مرغوبة أردنياً، من حرس ثوري وميليشيات محسوبة على إيران ... الأردن لا يرغب في رؤية هذه الجماعات على مقربة من حدوده، حتى وإن لم يكن في نيتها استهداف "الداخل الأردني"، كما أن الأردن لا يرى مصلحة له، في تصعيد أمني وعسكري إسرائيلي مع هذه الأطراف على مقربة من حدوده.
التحدي الأول، تحدي الجماعات "الجهادية"، لا مناص من التعامل معه بقوة الحديد والنار، وبالإمكان إنشاء حلف دولي واسع ومتعدد، تحت مظلة القطبين الروسي والأمريكي، لاستئصاله من جنوب سوريا ... في هذا السياق، لا يستطيع الأردن أن يستنكف عن القيام بكل متطلبات حفظ أمنه واستقراره ... وهنا تبرز من جديد الكلمة المفتاحية: "التوافق"، فتحت هذه المظلة، يمكن للأردن القتال على مساحة أوسع ضد هؤلاء خارج حدوده، قبل أن يجد نفسه مضطراً لقتالها داخل حدوده أو على مقربة شديدة منها.
أما التحدي الثاني، تحدي المليشيات الصديقة للنظام والموالية لإيران، فيمكن "تحييده" عبر القناة الروسية، التي أظهرت فاعلية في كل مرة قررت فيها موسكو الإلقاء بثقلها خلف موقف معين إجراء محدد... ولا أحسب أن تصعيد الموقف بين إسرائيل أو الأردن وهذه الجماعات، أمرُ يندرج على أجندة الكرملين، ولا أرى أن دمشق متحمسة لخيار من هذا النوع... وفي كل الأحوال، فإن "التوافق" سيمكن من تنسيق عمل ميداني، يحفظ أمن هذه المنطقة، من دون الحاجة للالتجاء لهذه الجماعات، او يسمح بإعادة انتشارها جنوباً.
ثمة تحدٍ ثالث، مضمر، ينتظر الأردن جنوب سوريا، ويتعلق بالدور الإسرائيلي في محيط القنيطرة وأطراف درعا ... لإسرائيل مصلحة في منطقة آمنة شبيهة بجيب سعد حداد وشريط أنطوان لحد الحدودي، وإسرائيل قد تقترح لنفسها أدوراً في مناطق بعينها، ترى فيها متطلباً ضرورياً لنظريتها الأمنية ... أي تداخل بين الأدوار، وأي اختلاط في الأجندات، سيعرض الأردن لما هو في غنى عنه، من اتهامات وحملات وتهديدات، لذا فالحذر حيال هذا الموضوع، ربما يكون شرط النجاح أو الفشل في التعامل مع هذا الملف، إن لم يكن على المدى المباشر، ففي المدى المنظور.
منطقة "تخفيف التصعيد" الجنوبية، قد تشكل بوابة للأردن لفتح حدوده مع سوريا (واستتباعاً لبنان وأوروبا)، وربما تزامناً مع فتح حدوده مع العراق ... وليس لدى الأردن من خيارات أخرى، سوى العمل على جعل "ترجمتها" العملية التوافقية، منسجمة أتم الانسجام مع أهدافه ومصالحه على هذا المحور، حتى وإن تطلب الأمر تطوير استراتيجية "الدفاع من العمق"، والانتقال من موقع المراقب إلى موقع الضامن لمسار أستانا.