بقلم عريب الرنتاوي
ليس للدم السوري لون واحد على ما يبدو، فهو عند أنصار النظام باللون الأزرق، وعند خصومه بالأحمر القاني، حين يُراق على أيدي قوات النظام في الأحياء الشرقية لمدينة حلب ... الحكاية ذاتها تتكرر بصورة معكوسة، عندما ينزف السوريون دماءهم في الشطر الغربي للمدينة، بفعل قذائف المعارضات وصواريخها ... ومن يتتبع البث الفضائي العربي، يصعق لحجم الدجل والزيف والنفاق الكامن خلف حفلات الردح والبكائيات التي لا تتوقف ... إنها حفلة جنون جماعية، وبازار للمتاجرة بدماء السوريين، لا فرق إن قادتهم أقدارهم للإقامة على هذا المقلب أو ذاك، في المدينة المنكوبة.
بعيداً عن “العواطف” أو بالأحرى، عن المتاجرة بدماء السوريين المدرارة، التي تُستَخدم على أبشع ما يكون عليه الاستخدام، لاستدرار التعاطف والتأييد ... فإن للمعركة المحتدمة في حلب دوافع وبواعث، تجعل منها “حتمية”، فهي “بيضة قبان” ميزان القوى بين النظام وحلفائه من جهة، والمعارضات وداعميها ورعاتها من جهة ثانية ... إنها معركة لا بد منها، عاجلاً أم آجلاً، لتبديد التباس موازين القوى وغموض الأحجام والأوزان بين المعسكرات المتحاربة في سوريا وعليها.
استراتيجياً، لا يمكن للنظام أن يدعي هزيمة خصومه ومعارضيه، إن ظلت حلب، أو شطر منها، في أيديهم، وبالأخص، إن ظلت شرايين دعم وإمداد الفصائل المسلحة، متصلة بـ “العمق الاستراتيجي” التركي ... هذا أمرٌ لا يمكن أن يكون في صالح المفاوض السوري في جنيف تحت أي ظرف، وتبديله مصلحة عليا للنظام، لا تعلوها مصلحة في الوقت الحاضر.... ومن منظور المعارضة، فإن حلب، وحلب وحدها، تعطيها الإحساس بانها “معادل موضوعي” للنظام، الذي أحكم قبضته على دمشق، من دون ذلك، ستتحول إلى “معارضة طرفية”، ليس لها مواطئ أقدام في “الحواضر السورية الكبرى”، خصوصاً بعد أن أحكم النظام سيطرة أو يكاد، على معظم “سوريا المفيدة” باستئناف إدلب.
تكتيكياً، ومن باب “ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه”، فإن للمعركة في حلب دوافع أخرى من وجهة نظر النظام وحلفائه ... أهمها على الإطلاق، تقطيع شرايين الإمداد بين المدينة وأريافها الشمالية، و”قطع دابر” التمدد التركي في العمق السوري، والقضاء على نحو شبه نهائي، على أحلام السلطان بوصول “منطقته الآمنة” إلى ثاني أكبر وأهم المدن السورية ... لهذا تبدو المعركة في حلب وعليها، دامية ومريرة ومديدة، والأرجح أن دماء كثيرة ستسيل في الطريق لحسمها، وسيسقط المزيد من المدنيين الأبرياء.
وتكتيكياً أيضاً، ولكن هذه المرة من منظور الحرب على الإرهاب، يبدو أن للمعركة في حلب وعليها، أهمية خاصة لفرز وتصنيف الفصائل المسلحة، جغرافياً هذه المرة وليس إيديولوجياً ... فالتهدئة سقطت في مثلث حلب – إدلب – اللاذقية، جراء التداخل في مناطق انتشار النصرة وتشابك تحالفاتها مع من يصنفون كـ “معارضة معتدلة” ... سمح ذلك باهتزاز التهدئة وترنح مشروع “وقف الأعمال العدائية” .... المطلوب اليوم، إحداث الفرز الجغرافي، كأن تنأى الفصائل عن النصرة، لا إيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً فحسب، بل وجغرافياً كذلك، ليترسّم “فك الارتباط” بين الحرب على الإرهاب المفتوحة بلا تهدئات ولا هدن، وحرب الداخل السوري، التي تحتمل التصعيد والتبريد وفقاً لمسارات جنيف وعلى إيقاعاته، هنا وهنا بالذات، يكمن السبب وراء اتهامات المعارضة لواشنطن بالتواطؤ مع موسكو لإعطاء النظام ضوءً أخضر في حلب.
ومن يتتبع خطوط القتال وجبهات المعارك يرى أنها تدور حول هذه المحاور والأهداف: النظام يسعى في السيطرة على شريان حندرات - الكاستيلو الاستراتيجي، والمعارضة (النصرة أساساً) تسعى في إحكام سيطرة على بلدة العيس وتلتها الاستراتيجية وصولاً لبلدة الحاضر، لاختراق قلب مواقع النظام في المدينة ... أما داعش عن بعد، فلم يفقد الأمل باستعادة بلدة خناصر، خط الإمداد الرئيس لقوات النظام في ريف حلب الشرقي ... خريطة شديدة التعقيد والتشابك من حيث المصالح واللاعبين والأهداف، حيث لا يبدو أن أكراد سوريا بعيدين عنها بدورهم، وهم الذين نجحوا في صد هجوم “تركي غير مباشر” على تل رفعت قبل ثلاثة أيام في محاولة يائسة من أنقرة، لمنعهم من الوصول إلى بلدة إعزاز الاستراتيجية.
أهمية المعارك الطاحنة التي تجري على مختلف المحاور في حلب و”أكنافها”، هي التي تفسر فيضان الدموع الذي تذرفه الأطراف المختلفة، على الضحايا الأبرياء التي تسقط هنا وهناك، والذي يكاد يفوق طوفان الدماء البريئة المسكوبة على ضفتي الصراع الدائر، وقد علمتنا الكارثة السورية، أن ندقق في تفاصيل الميدان ومجرياته، كلما اهتاجت الفضائيات وماجت، فغالباً ما تكون “درجة الاستنفار” التي تعلنها “غرف الأخبار” انعكاساً دقيقاً لحالة الاستنفار التي تعيشها “غرف العمليات” الأمنية والسياسية في العواصم ذاتها.