بقلم : عريب الرنتاوي
لا أدري ما الذي دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للتصريح بأنه لم يرتكب خطأ واحداً قط في سوريا، منذ اندلاع أزمتها الممتدة حتى يومنا هذا... لكن «نبرة التصريح» وسياقه، يؤكدان أن سياسة الرجل في سوريا، وبعد تطورات الأعوام الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص، لم تعد مقنعة لقطاع واسع من الأتراك، وتواجَه بانتقادات لاذعة، في صفوف الحزب والدولة، دع عنك المعارضة والخصوم والمتضررين.
والحقيقة أن جميع عواصم العالم ونصف الأتراك على أقل تقدير، كانوا على بينة من الأخطاء والخطايا التي جرت مقارفتها من قبل الحزب الحاكم وحكومته، وباستثناء قلة قليلة العالمين العربي والإسلامي، ما زالت ترى الخير كله، يسير في ركاب الرجل وحزبه، فإن ثمة انتقادات واتهامات، ينعقد حولها إجماع إقليمي ودولي نادر، بل وتؤيدها شرائح عديدة من المجتمع والنخب التركية ذاته.
أخطأ الرئيس التركي في «تقدير الموقف» في سوريا، وانضم إلى القائمة الطويلة من قادة المنطقة والعالم، الذين انهمكوا في عدّ الأيام الأخيرة للرئيس السوري بشار الأسد ... الرئيس التركي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وتوعد بالصلاة في المسجد الأموي بعد الإطاحة بنظام دمشق ... أردوغان اليوم يفاوض على شريط معزول من السلاح والإرهابيين، وبوتين يذكره صبح مساء بأن اتفاق سوتشي «مؤقت»، وان الدولة السورية ستبسط سيطرتها على كامل أراضيها وحتى خط الحدود.
أخطأ الرئيس التركي في عدم «رسم خط فاصل» بين المسألة الكردية في سوريا والمسألة الكردية في بلاده ... لقد قضى طموحه الشخصي والحزبي على مسار السلام والحوار مع أكراد بلاده، وعادت المسألة الكردية في تركيا إلى مربع العنف الأول، بعد أن لاحت في الأفق بوادر حلها ... ستمضي سنوات طويلة، قبل أن يعود الوئام والانسجام إلى مناطق جنوب شرق الأناضول... والحاجز المرتفع الذي أقامه أردوغان مع أكراد سوريا، هيهات أن يندثر لسنوات وعقود قادمة... هنا لا أقصد تبرئة الأكراد في كلا البلدين من المسؤولية عن تدهور العلاقات التركية الكردية، ولكنني في الوقت ذاته، لا أنزّه أردوغان عن مقارفة الأخطاء وارتكاب الخطايا في هذا الملف الشائك والحساس.
أخطأ الرئيس التركي حين سمح بفتح حدود بلاده أمام المقاتلين الأجانب من كل جنس ولون وعقيدة، للدخول إلى سوريا، وأحيانا منها إلى العراق، ظناً منه أنه بذلك يسّرع عملية إسقاط النظام في دمشق، وتحقيق أحلامه بتحويل سوريا، ساحة خلفية ومجالاً حيوياً لنفوذه ... صورة تركيا في العالم، لم تعد كما كانت قبل خمس أو ستة أعوام، ومن لديه شك في ذلك، فليراجع أكداس المقالات والتقارير والدراسات، وبكل اللغات في هذا الصدد ... تركيا التي اعتمدت «القوة الناعمة» و»صفر مشاكل» في العشرية الأولى من القرن الحالي، بدأت تتهم في العشرية الثانية بالتواطؤ مع جماعات إرهابية، وتمريرها وتسليحها، ومن تجرأ من صحفيي تركيا وإعلاميها على كشف بعض فصول هذه اللعبة البائسة، ما زال يقبع في السجون.
أخطأ الرئيس التركي حين رفع منسوب الخطاب الديني – المذهبي في لغته، وسعى في تقديم نفسه كـ»ناطق باسم الإسلام السني»، في مواجهة إيران الشيعية وحلفائها ... من تداعيات هذا الخطأ، أن أحداً لم يعد ينظر لتركيا بوصفها نموذجا لتعايش الإسلام مع الديمقراطية والعلمانية، بل كنموذج لرغبة «الإسلاميين» في فعل كل شيء للوصول إلى السلطة والبقاء فيها.... من تداعياته الخطيرة على النسيج الاجتماعي التركي، أن تركيا بدأت تشهد على ولادة «مسألة علوية» كذلك، ومن الخطل تبرئة أردوغان من المسؤولية عن تشكل هذه المسألة.
أخطأ الرئيس التركي حين اصطفى جماعة الإخوان المسلمين حليفاً أولى بالرعاية لحزبه وحكومته وبلاده، مقامراً بعلاقاته مع دول عربية وازنة، ناصبها أشد العداء بحجج وذرائع واهية، ورماها بما فيه حتى بعد أن تكشفت ملامح أهدافه في إعادة صياغة الدولة والمجتمع على مقاسات ومعايير حزبه وشخصه، وهو الأمر الذي كشفته بشكل فاقع، تداعيات مع بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في العام 2016.
أخطأ الرئيس التركي حين «تحرش بروسيا»، وأسقط طائرة حربية، ظناً منه أنه يتمتع بحصانة الأطلسي وحمايته، وهو الذي طالما استدعى أو لوّح باستدعاء الأطلسي إلى سوريا، إلى أن اصطدم بجدار الحقيقة، فعاد إلى الكرملين معتذراً، وبقية القصة معروفة حتى سوتشي الأخيرة... وها هو يتعهد بالعمل على تحسين العلاقة مع أمريكا، لكن أمريكا ترامب لا تريد شركاء، بل «بقرات حلّابات» وأتباع منقادين.
لست هنا بصدد تقييم السياسة التركية في سوريا طول سنوات الأزمة الثمانية، فتلك مهمة تتخطى حدود ما يسمح به هذا المقال ... ولكنني آثرت أن استحضر على عجل، بعض ما حضرني من أخطاء وخطايا قارفتها أنقرة في سوريا تحت قيادة رجلها القوي، بعد أن شعرت بأن تصريحاً كالذي ورد على لسان أردوغان، ينطوي على قدر هائل من «الجرأة» ويعكس «حالة إنكار» مستعصية.