عريب الرنتاوي
من انتظار زيارة خالد مشعل إلى طهران، إلى انتظار زيارته إلى الرياض ... مسافة من الزمن قصيرة للغاية، بيد أنها حافلة بالتطورات السياسية والميدانية، في عموم الإقليم وعلى الساحة الدولية.
قبل “التغيير في الرياض” الذي أملاه رحيل الملك عبد الله بن العزيز، كانت طهران “قبلة” الحركة الإسلامية الفلسطينية، سيما بعد سقوط نظام الرئيس محمد مرسي، واشتداد مأزق حماس في قطاع غزة، وتصاعد موجة العداء و”الشيطنة” لجماعة الإخوان المسلمين، إلى حد إدراجها كمنظمة إرهابية في عدة دول عربية ... يومها بدأت حماس مسيرة العودة إلى حلفائها السابقين في “محور المقاومة الممانعة”، وتواترت الأنباء والتقارير التي تحدثت عن زيارة وشيكة لرئيس مكتبها السياسي إلى إيران، وقيل في حينها أن خلافاً “بروتوكولياً” هو ما يعيق إتمام الزيارة، فحماس تريد ترتيب لقاء لرئيس مكتبها السياسي مع المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وإيران ترفض أن يشترط زوارها عليها مسبقاً مع من يلتقون ومن لا يلتقون ... لكن أمر الزيارة ظل مطروحاً بقوة، وبشّر الدكتور محمود الزهار، المعروفة بحماسته الزائدة لاسترداد العلاقة مع طهران، بقرب إتمام هذه الزيارة، واستعادة “العلاقة الاستراتيجية” مع إيران و”المحور” إياه.
بعد التغيير في المملكة العربية السعودية، والذي حمل في طيّاته إرهاصات تبديل في سلم أولويات الرياض، تجعل من إيران الخطر “رقم واحد”، وليس داعش والإرهاب، بدا أن المملكة، وفي ضوء الحدث اليمني، وانفلات الحوثيين من عقالهم التاريخي في جبال صعدة، وسيطرتهم على صنعاء وكثير من محافظات الشمال، نقول بدا أن الرياض تريد استعادة التهدئة والتعاون في علاقاتها مع جماعة الإخوان، مستفيدة من “الفالق المذهبي” الذي يفصل الجماعة بفروعها المختلفة عن طهران “عاصمة المذهب الآخر” ... وظهر من الرياض، من يتحدث بقوة عن الحاجة لترميم العلاقة مع التجمع اليمني للإصلاح، الفرع اليمني لجماعة الإخوان، بوصفه الجهة الوحيدة المنظمة والقادرة على صد تمدد الحوثيين والتصدي لمشروعهم.
عند هذه النقطة بالذات، يبدو أن حماس التقطت الرسالة (البعض يقول قطر)، وهي التي كانت تبلغت بصورة مباشرة وغير مباشرة، بأن المملكة لا تكن لها مشاعر عداء، ولا تعتبرها حركة إرهابية، فعرضت قيادتها التوسط بين السعودية وإخوان اليمن، وتسهيل محاولات الرياض استعادة نفوذها التاريخي في تلك البلاد، والذي كاد أن يتقوض بالكامل جراء زحف الحوثيين، وبشكل خاص خلال الفترة التي سبقت “فرار” الرئيس عبد ربه منصور هادي متخفياً من صنعاء حيث كان “قيد الإقامة الجبرية”، إلى عدن التي جعل منها عاصمة مؤقتة لليمن.
الكثير من المبالغات رافقت وصبغت أنباء “التقارب” بين حماس والرياض، بعضها روّج لأحاديث هاتفية بين العاهل السعودي ورئيس المكتب السياسي لحماس، وطلب الأول من الأخير، الوساطة مع “الإصلاح”، وبعضها ذهب إلى حد التكهن بأن زيارة مشعل للرياض باتت قاب قوسين أو أدنى، آخرون تحدثوا عن “دور قطري” في التوسط بين الرياض والحركة التي تتخذ من الدوحة مقراً لها، أملته مناخات التوافق القطري – السعودي غير المسبوقة، إلى غير ما هنالك، مما نعرف وما لا نعرف، وليس لدينا ما يؤكد أو ينفي حدوثه.
لكن من منظور “التحليل السياسي” للتطورات الأخيرة في السعودية، والمعرفة بما يمكن لحماس أن تفعله وما لا يمكنها فعله، نرجح أن قنوات الاتصال بين الحركة والسعودية وحماس قد فتحت، وربما على مستويات أمنية وسياسية، لم تبلغ بالضرورة حد طلب الملك سلمان شخصياً من خالد مشعل التوسط لدى التجمع اليمني، ولا أدري إن كانت السعودية بحاجة لمثل هذه الوساطة أصلاً، وهي التي دعمت تاريخياً هذا التجمع، ولطالما زودته و”آل الأحمر” بكثير من أشكال الدعم والإسناد، وتحتفظ بعلاقات متشعبة مع معظم أركانه.
أما أن تكون حماس قد عرضت “مساعيها الحميدة”، فهذا أمر قابل للتصديق، وثمة “سوابق” تؤكد استعداد الحركة القيام بهذه الأدوار نظير تحسين علاقاتها مع دول وحكومات وأنظمة عربية ... هل تذكرون مسعى حماس للتوسط مع إخوان الأردن للعودة عن قرار مقاطعة انتخابات 2013، وهو المسعى الذي قوبل برفض الجماعة، وترك انطباعات سلبية لدى المهتمين بتتبع علاقة الحركة والجماعة.
هذا التقرّب الحمساوي من الرياض، والذي يوضع بدوره في إطار “العلاقات الاستراتيجية”، ويبشر الدكتور الزهار نفسه، بقرب إتمام زيارة وفد حماس للرياض، أثار ويثير ردود فعل صامتة ومعلنة من قبل “المحور الآخر”، الذي يبدو أنه تيقن أخيراً، من أن حماس لا تنظر لنفسها بوصفها مكوناً عضوياً في هذا المحور، وأن علاقاتها به، تندرج في إطار “الطارئ” و”المؤقت” من المنافع والحسابات، لتعزز بذلك وجهة نظر دمشق ومعها بعض الأوساط الإيرانية، التي جاهرت برفض “عودة الابن الضال”، وطالبت بإخضاع حماس لاختبارات جدية وجادة، وقيامها بإجراء مراجعات كافية لمواقفها السابقة، قبل الإقرار باستعادة عضويتها في “نادي المقاومين والممانعين”.
“محور المقاومة والممانعة” لم يغفل لحماس تورطها في دعم المعارضة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد، ولا هو نسي لرئيسها تلويحه بعلم المعارضة وراياتها في مهرجان إسطنبول، ينظر اليوم لما تنوي الحركة فعله من محاولة تحشيد إخوان اليمن ضد الحوثيين، بوصفه “تورطاً ثانياً” للحركة في نزاع أهلي داخلي، ومن بوابة دعم خصوم هذا المحور على حساب حلفائه ... أما نحن الذي تابعنا بقلق فصول هذه التورط في الأزمتين السورية والمصرية، فإننا نخشى من “تورط ثالث”، ستكون له حتماً نتائج وخيمة.
على أية حال، تسعى حماس للجمع بين “الحسنيين”، بين طهران والرياض، وهذا حقها، لكن في ظل تفاقم حالة الاستقطاب بين العواصم والمحاور الإقليمية، تبدو المهمة صعبة إن لم نقل مستحيلة ... وحماس تجازف اليوم، بما سبق لها أن جازفت به بالأمس، ودفعت ثمنه غالياً، عندما تخلت عن حلفائها القدامى في محور المقاومة، قبل أن تركن إلى استقرار حلفائها الجدد في سدة الحكم التي وصلوا إليها على أكتاف ثورات الربيع العربي وانتفاضاته ... اليوم تجازف حماس، وإن بحذر، بعلاقات “المُستردة” جزئياً مع المحور ذاته، بانتظار أن يحدث التحول في الموقف السعودي، على أن أحداً ليس بمقدوره التكهن بما إذا كان هذا التحول قد حصل، وإلى أي درجة ومستوى، والأهم ما إذا كان سيستمر أم لا؟ ... فالمنطقة حبلى بالمفاجآت، والأيام ستبدي لنا ما كنا نجهله، وسيأتينا بالأخبار من لم نزوّد.