عريب الرنتاوي
حدث ما كان منتظراً، وخرجت إيران من دائرة الحصار والعقوبات، برغم “المقاومة” التي أبدتها أطرافٌ عدة، منذ أن كان “الاتفاق النووي” فكرة متعثرة، وحتى أصبح واحدة من حقائق المشهد الإقليمي والسياسة الدولية ... لم تنفع محاولات إسرائيل وبعض العرب في ثني الغرب عن “الاتفاق”، كما أخفقت محاولاتهم، في تعطيل ترجمته ونقله إلى حيّز التنفيذ. المخاوف من “إيران ما بعد الحصار”، عكستها البورصات الخليجية التي تهاوت بالأمس على وقع الانباء عن رفع العقوبات ... لكنه انهيار مؤقت، سياسي أكثر مما هو مالي أو اقتصادي، والأرجح أنه سيتبدد قريباً ... بيد أن المخاوف من تنامي دور إيران الإقليمي ليست مؤقتة على ما يبدو، ولا يعتقد كثيرون، أنها ستتبدد في المدى المنظور، في ظل تفاقم حدة الاستقطاب المذهبي في المنطقة، والذي يخفي وراءه، صراع المصالح والأدوار في الإقليم.
أين تتجه إيران بعد رفع العقوبات؟ ... سؤالٌ يُكرر بصيغة أخرى، سؤالاً سابقاً: “أين تتجه إيران بعد “اتفاق فيينا”؟ .... وجوابنا على السؤال الجديد، هو ذاته، جوابنا على السؤال القديم: الكثير سيعتمد على توازنات القوى في الداخل الإيراني، بين تيار “إيران الدولة” وتيار “إيران الثورة”، بين “الإصلاحيين” و”المحافظين” .... وإن كنا سنضيف اليوم، عنصراً جديداً ضرورياً لغايات البحث والتحليل، ويتعلق بنتائج الانتخابات الأمريكية التي تقرع الأبواب، فإن نجح الجمهوريون في تقديم مرشح “مقنع” قادر على الفوز في السباق نحو البيت الأبيض، يمكن أن يطرأ “انقطاع” في مسيرة إعادة إدماج إيران في المجتمع الدولي والسوق العالمية، وإن احتفظ الديمقراطيون بالرئاسة، فقد نشهد “استمراراً” في السياسة الأمريكية المنفتحة على إيران.
لإيرانيون ضاقوا ذرعاً بالحصار والعقوبات، “البازار” الإيراني تواقٌ لاستئناف مبادلاته المالية والتجارية مع العالم الخارجي، والطبقة الوسطى والشباب والنساء، متعطشون لخلع “البزة العسكرية” التي ألبسها لهم، الحرس الثوري على مدى عقود أربعة تقريباً، والاتفاق من الناحية النظرية، سيمنح هؤلاء فرصة لاستنشاق هواء جديد، وسيعزز إلى حد كبير، القواعد الاجتماعية للتيار الإصلاحي، تيار “إيران الدولة”، وسنكون في غضون الأشهر القليلة المقبلة، أمام اختبار لصحة هذه الفرضيات، عندما سيُكشف عن نتائج انتخابات مجلسي الشورى والخبراء الوشيكة.
لكن التيار المحافظ، لم يرفع الراية البيضاء بعد، فهو وإن قبل بالمفاوضات والاتفاق من على قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، ومن باب الانحناء أمام العاصفة التي يصعب جبهها، إلا أنه ما زال متوفراً على كثيرٍ من الأوراق، التي سيكون بمقدورها تفريغ “انتصار فيينا النووي” من مضمونه، ومنع توظيفه في الصراع الداخلي، وقطع الطريق على تأثيراته المحتملة، على توازنات القوى في إيران، الدولة والمجتمع.
“اللعبة انتهت” بالنسبة لخصوم الاتفاق الإقليميين: إسرائيل وبعض الدول الخليجية (السعودية أساساً)... الاتفاق بات وراء ظهورهم وليس أمامهم ليعملوا على تعطيله، وسيف العقوبات رُفع عن أعناق الإيرانيين، ولم يعد بمقدور أحد التلويح به بعد تقرير وكالة الطاقة النووية بالأمس ... أما الولايات المتحدة، فقد استنفذت ما في جعبتها من “جوائز الترضية” التي يمكن أن توزعها على الحلفاء القلقين، بعد أن منحت إسرائيل مزيداً من المساعدات المالية والعسكرية، وأعفتها حتى إشعار آخر، من “حل الدولتين”، وبعد أن منحت السعودية “الضوء الأخضر” لحربها في اليمن ... ولم يبق لهؤلاء الحلفاء، سوى التكيف مع وقائع الإقليم والعالم الجديدة من حولهم، فهل سيجنحون للتعامل مع “إيران الجديدة”، أم أنهم سيعيدون الكرَّةَ مرة ثانية، وإن بأدوات جديدة ووسائل مختلفة.
أغلب الظن، أن خصوم إيران الإقليميين، لن يكلوا ولن يملوا في العمل على تحجيمها و”قصقصة أجنحة” دورها الإقليمي ... إسرائيل ستواصل العمل استخبارياً في الداخل الإيراني، مستهدفة عناصر القوة والاقتدار الإيرانية، العلمية والعسكرية والتقنية، فضلاً عن استمرار رهانها على “عودة الجمهوريين والمحافظين الجدد” ...
والسعودية، ستواصل حربها ضد الدور الإقليمي لإيران، وهو الأمر الذي كان يقلقها (ولا يزال) أكثر من برنامج إيران النووي ... وطالما أن المملكة ليست بوارد الدخول في حرب مباشرة مع إيران كما تعهد رجلها القوي محمد بن سلمان، فالأرجح، أنها ستختار تصعيد “حروب الوكالة” من اليمن وحتى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا... والمرجح أن المملكة، تنتظر بفارغ الصبر رحيل إدارة أوباما عن البيت الأبيض، حتى وإن جاءت إدارة ديمقراطية بديلة عنها، علماً بأنها – تاريخياً – تفضل التعامل مع الإدارات الجمهورية المحافظة، وتتوق – ربما – لعودتهم إلى البيت الأبيض.
العرب والإيرانيون، جربوا مختلف أنواع المواجهات والحروب على امتداد العقود الأربعة الماضية، وقبلها زمن الشاه المخلوع، من دون أن ينجح أي فريق منهم في تحجيم الفريق الآخر، أو استبعاده، ولقد كانت هذه الحروب والمواجهات كارثية على الفريقين، خصوصاً الجانب العربي ... واليوم، يخوض العرب المواجهة مع إيران في ظروف أصعب، “دول فاشلة” تعاني حروباً أهلية وانقسامات مذهبية، وكثير من انظمتهم وحكوماتهم تقع في قلب دائرة الاتهام بتصنيع التطرف وتوليد الإرهاب، فيما إيران تدخل لأول مرة منذ “ثورتها الإسلامية” مرحلة انفتاح على الغرب وتعاون معه، ونفوذها في المنطقة توسع في السنوات العشر الأخيرة، كما لم يحدث من قبل على الإطلاق... فهل سيظل الفريقان على عهد العداء والصراع وحروب الوكالة والتدمير الذاتي للطاقات والموارد، أم أن هذا الصراع الممتد منذ سنين طويلة، والمرشح للامتداد والتفاقم لسنوات أخرى طويلة قادمة، قد آن له أن يضع أوزاره الثقيلة والمكلفة، ليشرع الجانبان في التفكير، على الأقل التفكير، في التأسيس لـ”منظومة أمن وتعاون إقليمية”، تشكل وعاءً إقليمياً لحل النزاعات وتبديد المخاوف وبناء الثقة، توطئة للتعاون على ضفتي الخليج العربي / الفارسي، وعلى امتداد بؤر الصراعات والأزمات المفتوحة، والتي تدور جميعها على أرضٍ عربية، ويدفع العرب وحدهم تقريباً، أثمانها الأشد إيلاماً والأعلى كلفة.