طلال سلمان
ينفرد المشرق العربي عن غيره من أقطار الدنيا بأن دوله تكاد تغرق في دماء مواطنيها المقتولين، في الغالب الأعم، بخلافات حكامهم وقياداتهم السياسية، بعيداً عن هموم معاشهم وحقهم في الحياة بجهدهم وعرق التعب في أرضهم التي تعطيهم شرف الانتساب إليها.
وحدها فلسطين تبذل دماءها غزيرة في معركة تتسم بقدسية استثنائية، عبر المواجهات المفتوحة مع العدو الإسرائيلي، من أجل تثبيت حقوق أهلها في أرضهم، التي كانت أرضهم وكانوا أهلها طوال التاريخ الإنساني المعروف، والتي يؤكدون ـ مجدداً وعبر مواجهات مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي أنها ستبقى لهم وسيبقون فيها، توكيداً لهذه الحقوق التي لا يمكن أن تلغيها الحروب الإسرائيلية المفتوحة على مدار الساعة، والتي تستهدف أبناء الحياة، فتية وعجائز، رجالاً ونساءً، بغير أن تستثني الأطفال.
وبينما غرقت دول المشرق، أو هي أُغرقت، في صراعات دموية غير مسبوقة في عنفها والتباهي بل المزايدة في أعداد ضحاياها على «الجبهات» المختلفة في سائر أنحاء المشرق وصولاً إلى اليمن، فإن شعب فلسطين المتروك لقدره في مواجهة عدوه الإسرائيلي واصل جهاده ـ وحيداً وأعزل ـ لتأكيد حقه في ارض وطنه ومنع جحافل المستوطنين، المدججين بالسلاح.
فجأة، ومن خارج أي تقدير، عاد فتية فلسطين إلى الميدان الذي غادروه مكرهين، ذات يوم، بوهم الحل السلمي الذي سيأتيهم بالدولة، ولو على أقل من نصف مساحة وطنهم وعبر «السلطة الوطنية» التي سرعان ما ثبت ـ بالدليل الحسي ـ أنها ليست «سلطة» إلا عليهم وكأنها وكيلة عن المحتل الإسرائيلي، فإن أظهرت تمسكها بحقوق شعبها قمعها الاحتلال فانصرفت إلى الخارج تحاول تحقيق مكاسب معنوية، أبرزها رفع العلم الفلسطيني ـ ولا دولة ـ على سارية منصوبة أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
هكذا، عاد الدم الفلسطيني يغطي الشوارع والطرقات الضيقة في مدن الضفة الغربية، الذي تأكد مرة أخرى أنها ما تزال محتلة، كما في غزة التي استعادت هويتها الوطنية الأقوى والأبقى من هويات التنظيمات التي كاد هوس السلطة يأخذها إلى شيء من الانفصال عن الوطن المحتل كله بعد، ومن النهر إلى البحر.
وبرغم انشغال الأنظمة العربية في عراكها مع شعوبها، فقد فرض الدم الفلسطيني المراق مجدداً على الأرض المقدسة بعنوان المسجد الأقصى نفسه على جدول أعمال عواصم الدول الكبرى التي تعبت من تنبيه رئيس حكومة العدو الإسرائيلي إلى مخاطر سياسة القمع الدموي التي يعتمدها، مطلقاً جحافل المستوطنين ليصادروا الأراضي التي مُنحت للسلطة الفلسطينية ببيوت الفقراء فيها وأشجار الزيتون التي طالما سقاها أصحابها بماء العيون.
يحمل الشبان المنذرون للشهادة رفاقهم الشهداء إلى مثواهم الأخير، ويعودون إلى ساحات المواجهة في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها. وسرعان ما يستجيب لنداءاتهم أخوتهم في غزة كما في المدن الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948، يافا وعكا وحيفا والقرى في جوارها، فيعلن الدم الذي يغسل الأرض المقدسة البشارة بانتفاضة جديدة، من خارج دائرة القرار العربي الرسمي المعطَل بالفتن والحروب الأهلية وحروب الأخوة ضد بعضهم بعضاً بأقوى الأسلحة فتكاً بالأحياء وتدميراً لأسباب العمران.
تتوارى أخبار «حرب الأشقاء المذهّبين» الظالمة على اليمن حيث تُهدر الدماء والثروات وتُهدم بيوت الفقراء التي بنيت بالصدقات والهبات والشرهات الملكية أو بما وفره اليمنيون من عرق جباههم في بناء بلاد إخوانهم وجيرانهم الأقربين في المملكة وأقطار الخليج التي كلها من ذهب.
تتوارى أيضاً أخبار الحروب المتجولة في العراق تحت راية «داعش» التي جمعت ضحايا أخطاء الماضي القريب تحت قيادة «أمير المؤمنين» لتصادر حاضر هذه البلاد المهدورة ثرواتها الهائلة، بل المنهوبة عياناً، على أيدي ملوك الطوائف الذين ورثوا الطغيان فنافسوه فساداً وتدميراً للدولة وإثارة للفتن، مستدرجين قوات الاحتلال للعودة ـ جماعياً أي بمشاركة أقطار الغرب كلها، وصولاً إلى أستراليا ـ في احتلال سماء العراق والتناوب على قصف أنحائه بذريعة ضرب الإرهاب.. في حين تتفسخ ارض الرافدين وتنتعش الدعوات الانفصالية بذريعة استحالة التعايش في دولة واحدة بين «السنة» و «الشيعة» وتزكية خيار التقاسم، بحيث يكون لكل مذهب دولته إلى جانب الدويلة الكردية في الشمال، مع القفز من فوق دهور العيش معاً، على اختلاف تسميات الممالك والعروش، عبر العهود مختلفة الشعار.
وتتوارى أيضاً التطورات الخطيرة في الحرب على سوريا وفيها متمثلة في اقتحام الطيران الحربي الروسي الأجواء السورية من أقصاها إلى أدناها ليساعد جيشها على استعادة المناطق التي اجتاحتها المنظمات المسلحة متعددة مصادر التسليح والإمداد، والتي تحتل بعض الأنظمة العربية المذهبة رأس قائمتها تحت شعارات مذهبية لتضاف إليها تركيا ذات المطامع العتيقة والمعلنة في اقتطاع المزيد من الأراضي السورية في الشمال.
تتقدم فلسطين بدمها لتصحح البوصلة، مقدمة العدو الحقيقي الإسرائيلي على سائر الأعداء الطارئين، ممن جذبتهم أخطاء الأنظمة في بعض الأقطار العربية فجعلتهم يتوغلون في دماء شعوبها بذريعة تحريرها من أنظمتها، متجاهلين أن هذه الهجمات قد تُسقط الدول بعد تشريد أهلها بعيداً عــن أرضهم، وعبر مغامرات يتهددها الغرق في بحور الظلمات أو المهانة والإذلال في بلاد الآخرين.
ها هي فلسطين تتقدم بدمها لتدين العدو الحقيقي والدائم لهذه الأمة، طالما استمر احتلاله الأرض المقدسة: لا يمنعها يأسها من النجدة العربية عن تقديم فتيانها ورجالها والنساء قرباناً لتأكيد حق أهلها فيها، وهم الذين كانوا عبر التاريخ أهلها.
يتساقط الشهداء في مختلف أنحاء الضفة الغربية وتتقدم غزة لتستعيد هويتها الفلسطينية، بعيداً عن أوهام الانفصال في دويلة بعيداً عن الدويلة الأخرى في الضفة الغربية. يعود شعب فلسطين إلى حقائق حياته الأصلية: هو صاحب الأرض المقدسة، هو بطل تحريرها بدمائه وتضحياته، رجاله ونسائه والفتيان والفتيات اللواتي أثبتن ـ مرة أخرى ـ أنهن ليسوا أقل من أشقائهم استعدادا للتضحية والبذل من أجل تحرير الأرض بإرادة الحياة وقوة حقهم في بلادهم التي كانت دائماً بلادهم.
ومع عودة شعب فلسطين إلى الميدان تنتبه دول الغرب، اساساً، إلى خطورة الممارسات الدموية التي تنتهجها حكومة إسرائيل العنصرية بقيادة نتنياهو، على مصالحها في المنطقة، فتبادر إلى رفع الصوت بتحذيرها من أنها لن تستطيع الاستمرار في دعمها وتنبهها إلى ضرورة الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في أرضه، وبدولة له فيها، وإلا فإن انتفاضة جديدة في الأفـــــق لن يستطيع جيشها وقفها أو منع العالم من تأييد مطالبها العادلة بل البديهية.
أما العرب، فمشغولون في حروبهم التي تكاد تكون الهزيمة في معظمها أشرف من النصر، لا سيما إذا كانت اليمن هي النموذج، وبذلك فلا وقت لديهم ولا إمكانات مادية ولا قدرات عسكرية لدعم نضال الشعب الفلسطيني الذي يمارس قهر اليأس مرة بعد أخرى، ويعود إلى الميدان فتياً، معافى ومستعداً للتضحية بلا حدود. وها إن قوافل الشهداء تترى في مختلف مدن الضفة الغربية وقراها، كما في غزة التي لما تلتئم جراحها العميقة بعد الحروب الإسرائيلية التي تكررت أربع مرات في عشر سنوات أو أكثر قليلاً.
إن العرب المقتتلين ولا قضية، والمتناسين قضاياهم الفعلية، وأعظمها المقدسة فلسطين، يخسرون مستقبلهم مع حاضرهم الذي دمروه بحروبهم الأهلية، بينما عدوهم الوطني والقومي يتغلغل في دولهم، موظفاً خلافاتهم لمصلحة إدامة احتلاله فلسطين وبعض أرض سوريا (ولبنان).
ولن تكون «دول الطوق» غداً، أقله سوريا والعراق، قادرة على نجدة فلسطين، بل هي ستكون بحاجة إلى من ينجدها لإعادة بنائها، ولكل نجدة ثمن... وأحياناً يكون ثمن النجدة أقسى من أن يحتمل!