انعدم الوسيط بين العرب والعرب، الذين كثيرا ما يختلف قادتهم ملوكا ورؤساء دول وأمراء ومشايخ، وقليلا ما تعرف الأسباب الحقيقية للخلاف، وشروط «الصلح» متى تم، وإن أهملت معرفة المستفيد من الخلاف أو من صفقة الصلح التى غالبا ما تكون مجزية.
وهكذا لم يجد المختلفون من أهل مجلس التعاون الخليجى من يتدخل لرأب الصدع وإصلاح ذات البين فى ما بينهم وسيطا من بين الأشقاء العرب، بل إن حتى التركى قد رُفضت شفاعته لقطر، وعاد الجميع إلى مرجعهم الأول والأخير، والآمر الناهى، وهو الولايات المتحدة الأمريكية بشخص رئيسها المعظم دونالد ترامب.
بغض النظر عن أن كلفة المصالحة ستكون باهظة على أطرافها جميعا، فإن هذا الواقع يجسد الشاهد الجديد على بؤس حالة العرب ويؤكد ــ مجددا ــ أنهم أعجز من أن يحلوا مشكلاتهم «الأخوية»، فكيف بهم إذا ما اضطروا إلى مواجهة عدوهم الوطنى والقومى والمصيرى المتمثل فى شخص إسرائيل.
بين أكلاف هذه «الحرب» أن تندفع إليها السلطة فى مصر، مدفوعة بالرغبة فى الثأر من الحكم فى قطر الذى تواطأ عليها قبل حكم الإخوان ثم خلاله وربما بعده..
ولكن مصر حتى فى حالة ضعفها وفقرها، تظل فى عيون العرب (والعالم) أكبر من أن تلتحق بالسعودية والإمارات والبحرين.
فحساب مصر مع الحكم فى قطر مختلف جدا عن حساب شركاء إمارة الغاز فى الثروة وفى مجلس التعاون الخليجى.
حتى فى موضوع الإخوان لم تكن قطر وحدها المضيف والداعم بالمال والسلاح.. بل إن السعودية لم تكن معادية ــ جديا ــ لهذا التنظيم ذى التاريخ الملتبس الذى جعله غالبا فى موقع الطرف الرجعى المعادى للتغيير ــ إلا وفق معاييره ــ فى مختلف أرجاء الوطن العربى.
فى أى حال فإن الأزمة المتفجرة، مجهولة الأسباب، بين السعودية (ومن معها) وإمارة قطر قد كشفت ــ مرة أخرى ــ عن بؤس الأوضاع العربية، والانقسام المريع بينهم، وغياب المرجعية المؤهلة لحل أى خلاف قد ينشب بين قادتهم.. فالقاهرة، فى هذه «الحرب» طرف، إلى جانب السعودية ومعها الإمارات والبحرين، ودمشق كما بغداد مغيبة بالحرب فيها وعليها، والجزائر فى مثل حال رئيسها الحى ــ الميت، والمغرب مشغول بذاته..
ثم إن دول مجلس التعاون الخليجى قد استقلت بقرارها، منذ زمن بعيد، متخذة من واشنطن مرجعية عليا، فى يدها الحل والربط فى الشئون الخليجية جميعا، الاقتصادية والعسكرية فضلا عن السياسية.. حتى إن ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان قد اختار مؤسسة أمريكية لكى تضع له خطة العام 2030 للنهوض بالمملكة إلى حيث يليق بدخلها النفطى الهائل والذى لم ينعكس على الأحوال العامة فيها، سواء الاقتصادية أم التربوية أم الاجتماعية...فضلا عن السياسية!.
من هنا فإن وزير الخارجية الأمريكية قد «تفرغ» لمعالجة الأزمة الحادة التى نشبت ــ من دون مقدمات مقنعة ــ بين السعودية ومن معها وبين قطر، والتى تعذر على رجل المهمات الصعبة، أمير الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح أن يعالجها فيحلها.. على الرغم من أنه نجح فى تهدئة الطرفين، بحيث يمكن للوسيط الأخطر والذى لا يرد له طلب، أى الوزير الأمريكى أن يرسم إطار الحل المنشود للمشكلة مجهولة الأسباب إلى أن تكشفها طبيعة الحل، وإن كان عنوانها السياسى المعلن هو: قناة الجزيرة وحروبها المفتوحة على جبهات عدة.
***
إن هذه الأزمة التى تأخر انفجارها عن الموعد المتوقع، إذا ما كانت «قناة الجزيرة» هى السبب، تدل بوضوح على أن العرب عموما وعرب الخليج خاصة، يعيشون فى عالم افتراضى يبهر الناظرين بتوهج الذهب فيه... وهو قد يساعد فى طمس المشكلات الطبيعية، فالمال وحده لا يكفى لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية والعلاقات بين الدول الناشئة وذات الدخل وحيد المصدر والخاضع لتحكم الأعظم إنتاجا والأقوى نفوذا فى السياسة كما فى العسكر، وخارج بلادهم أكثر مما فى داخلها... هذا فضلا عن المتحكم فى الداخل بأسباب الحياة جميعا..
ثم إن دول النفط العربية استغنت بالذهب الأسود عن هويتها القومية، وصار النفط ــ بأسواقه والمتحكمين فى أسعاره ــ هو الموجه الأساسى للسياسة..
وهكذا انقسم العرب عربين: عرب الثروة (نفطا وغازا) والعرب الفقراء.. ولم تعد المشاعر القومية ووحدة المصير والمصالح المشتركة تكفى لتربط بينهم، فى حين أن مصالحهم متضاربة أو أنها غير مشتركة..
وكان منطقيا أن يذهب عرب النفط والغاز إلى أمريكا، القوة المهيمنة فى منطقتهم، كما أنها المنافس الأكبر فى مجال إنتاج الطاقة (نفطا وغازا)، ثم إنها مؤهلة للتحكم فى الأسعار رفعا وخفضا عن طريق التحكم فى الإنتاج..
تجاوز الارتباط السياسة بمعناها المألوف إلى مصادر الدخل والتحكم فى أسواقه وبالتالى فى أسعاره.. ولم تعد للشعارات القومية معنى الرباط المقدس على طريق المصير المشترك.
***
هى أزمة خطيرة، إذن، فى العلاقات بين الرباعى العربى الذى تقوده السعودية ويضم إلى الامارات والبحرين جمهورية مصر العربية، ذات الثأر «البايت» على قطر، حاضنة الإخوان المسلمين، وقيادة حملة التشهير بمصر التى أسقطت حكمهم الذى وصلوا إليه فى غفلة من شعبها، فلما انتبه خرج إلى الشارع فأسقطهم فيه قبل أن يتقدم الجيش ليتولى ــ مجدداـ ـ زمام الأمور.
وعلى الرغم من كل ما كُتب وقيل فى الإعلام عن أسباب الأزمة «بين الأشقاء الأغنياء» فإن حقيقة الخلاف لا تزال غامضة: فالكل عند الأمريكان فى السياسة كما فى الاقتصاد، والكل «استقلوا» عن سائر العرب، وكانت آخر مهمة أنجزوها ــ بقيادة قطرــ هى«طرد» سوريا من جامعة الدول العربية، وهى دولة مؤسسة للجامعة، فى حين كانت معظم دول الخليج محميات بريطانية من رمل تحته النفط أو مياه تفور بالغاز، ولا من يكتشف أو يستثمر ليحول هذه البقاع الجرداء إلى دول حاكمة.
.. من دون أن ينتقص هذا التوصيف من كفاءة أهلها الذين نجحوا فى شراء مواقع النفوذ عربيا ودوليا، وصارت بلادهم من عواصم القرار.
أبسط دليل على أهمية «الإخوة الأغنياء» أن دول العالم المؤثرة فى القرار الكونى قد انقسمت فى مواجهة الخلافات التى شجرت بينهم... ففى حين اتخذت الولايات المتحدة دور الوسيط، ورفضت السعودية ــ ومن معها ــ تركيا فى مثل هذا الدور، اندفعت ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى لتساند قطر وتعلن دعمها لها فى هذا الصراع غير المفهوم.
فى المقابل فإن قطر قد حاولت الرد على الهجوم الصاعق بالانفتاح عربيا، فأعلنت أن أى مواطن عربى يستطيع القدوم للعمل فيها فيمنح تأشيرة الدخول فى مطار الدوحة!. وهذا استثناء، لو تعلمون، عظيم!
***
إن هذه «الحرب الكونية» التى نشبت من دون إنذار مسبق، فشقت من تبقى من العرب فى دولهم الغارقة فى فقرها بين الأغنى والأكثر غنى، تنذر بمستقبل بائس للعرب جميعا، وتهدد بخطر داهم ما تبقى من قضيتهم المقدسة: فلسطين..
لقد أثبتت هذه الحرب أن الأنظمة العربية باتت بلا قضية جامعة.. وأن الانقسام بين فقرائهم والأغنياء حقيقة ثابتة. وما انضمام مصر إلى حلف السعودية ــ الامارات ــ البحرين إلا ثأر «بايت» من قطر و«الجزيرة» فيها، التى حملت لواء الإخوان المسلمين، واستمرت تهاجم مصر وتستفزها على مدى الساعة، متباهية بقوتها التى من هواء وغاز..
وها هو العدو الإسرائيلى يقتل المصلين فى المسجد الأقصى، بذريعة الرد على عملية استشهادية نفذها ثلاثة من أبطال المقاومة من أم الفحم.. فيبادر محمود عباس إلى الاتصال بنتنياهو معتذرا.
***
قد يكون موجعا الاعتراف بأننا نعيش فى عصر باتت فيه الخلافات بين العرب متقدمة على صراعهم مع العدو الإسرائيلى، وهى معركة مصير... وأن فلسطين قد سقطت من جدول اهتمامات مسئوليهم وأن المنافسة بين حكامهم الآن تنحصر فى مسألة من هو الأقرب إلى قلب الإدارة الأمريكية أو إلى عقلها... علما بأن مثل هذه الإدارة بلا قلب، كما أن قيادة دونالد ترامب ليست مرجعا يعتد به عند الحديث عن العقل.
لكن الموجع أكثر أن الخلافات الموسمية التى تنشب بين الحين والآخر بين الدول العربية تكاد تكون بلا أساس يتصل بهمومهم الفعلية، وإن كانت تستولد لهم المزيد من الهموم الثقيلة.
لا مرجعية عربية الآن: لا قائد ولا قيادة جماعية..
وكل الكلام عن وحدة المصير والقضية المقدسة والأمن القومى، وضرورة التقدم فى اتجاه العصر ــ خصوصا أننا مهددون بالخروج منه ــ يظل أقرب إلى التمنيات.
إن حرب «داحس والغبراء» الجديدة قد كلفت العرب الكثير من سمعتهم بغض النظر عن الخاطئ والمصيب فيها.
والأهم أن توقف هذه الحرب العبثية بين متشابهين لا فضل فيها لنفطى على غازى.. إلا بالقرب من أمريكا.