طلال سلمان
مثقل باسمه ذي التاريخ، بثقافته الواسعة التي أنارت عقله، بالتجربة النضالية التي اغتالتها الخيبات إذ التهمت الطائفية والمذهبية العقائد وشوق الجمهور إلى التغيير، المقاتل ضد اليأس حتى إرهاق القلب بعد العقل، المعاند، المكابر في رفض الخضوع لمنطق الأمر الواقع، المحاصر بمرارة الخيبة وتساقط الرفاق أمام هيمنة ملوك الطوائف، المفجوع بانهيار القيم أمام إغراءات السلطة وشراسة الهزيمة، والصامد عند آخر معاقل الأمل في قلب آلام الجسد الذي أرهقته الأوجاع التي منبعها سياسي وأخطرها الاستسلام للمرض الذي ينهش قدرته على الصمود وإن بقيت روحه متوثبة كراية نضال فوق قمة التحدي.
هذه هي عناوين السجل النضالي لهذا «الشيخ» الذي هجر مهنة «المحامي» أو كاد ليتفرغ للعمل السياسي بالفكر والرأي والثقافة والتجربة والإيمان بالشعب متجاوزاً الأعراف والألقاب والتقاليد، قبل أن يغرق في بحر المرارة رافضاً الاستسلام للأمر الواقع والتسليم به قدراً.
لعل سليمان تقي الدين قد فوجئ بحفاوتي به، حين التقينا أول مرة في أوائل نيسان 1975.
كانت «السفير» قد أتمت في قلب التعب والقلق عامها الأول، وتقدمت لتحتل مكانتها في هذا الوطن الصغير، مشفوعة برصيد معنوي ممتاز على المستوى العربي.
تحدث سليمان قليلاً، وأفضت في الحديث عن بعقلين، عن عائلاتها العريقة عموماً، وعن آل تقي الدين بشكل خاص، مع لمحة عن آل حمادة.. وسط دهشة ضيفي.
وشرحت له أنني أمضيت بعض سني مراهقتي في بعقلين، التي انتقل إليها والدي الرقيب في الدرك رئيساً لمخفرها الذي كان يعتلي المركز الثقافي القائم الآن بديلاً من السجن، في حين كان الطابق الأول مخصصاً للمحكمة ومخفر الدرك. ثم إن ظروف عملي بعدما اخترت الصحافة مهنة قد أتاحت لي أن أعرف عن قرب عدداً من كبار العائلة العريقة وذات الرصيد السياسي ـ الديني ـ الثقافي المميز أشهرهم القانوني البارع، ثم النائب والوزير بهيج تقي الدين، وشقيقيه منير الإداري والمؤرخ لواحدة من الحقبات المهمة في تاريخ لبنان (ولادة استقلال) ثم السفير خليل تقي الدين وأخيراً الكاتب المبدع قصاً ساخراً والذي اقتحم الحياة السياسية من باب أضيق من أن يتسع لتطلعاته ونكاته وفوضاه الثورية: سعيد تقي الدين.
... وكان لبنان على موعد مع الحرب الأهلية، وكنا نستشعر مقدماتها في الأجواء المتوترة التي تحيط بنا في هذا الوطن الصغير المأزوم بنظامه الطوائفي، والأضيق من أن يتسع لثورة تهدف إلى تحرير فلسطين ضاقت بها الأرض العربية فاستقرت بأثقالها وطموحاتها وتناقضات فصائلها وصراع الأنظمة العربية فيها وعليها، في لبنان الذي يكاد يضيق بأهله المتخوفين من تطور اعتراضهم على نظامهم السياسي إلى فتنة سوف تتحول ـ بالضرورة ـ إلى حرب أهلية ـ عربية ـ دولية بحجم الصراع مع الكيان الإسرائيلي الذي طمح مؤسسوه لأن يكون دولة يهود العالم.
ظللنا على تواصل، وكنت أتابع الأنشطة الثقافية متعددة المنابر لهذا المناضل الذي ضاقت به الأحزاب أو ضاق بها، ويأخذني الإعجاب بغزارة إنتاج هذا القلق الباحث عن يقين.. خصوصاً وأنه كتب عن «مقدمات الحرب الأهلية» وعن «العرب والمسألة السياسية»، عن «المسألة الطائفية في لبنان» و»تحولات المجتمع والسياسة». كذلك فقد كتب، وقد تذكر أنه ـ في الأصل ـ محام، عن القضاء في لبنان، وأصول المحاكمات الجزائية، والدين والتنظيم القضائي، والمحاكم الاستثنائية ودورها في لبنان، والقضاء النظامي والقضاء غير النظامي في لبنان، وعن استقلال المحاماة، وعن الطعون الانتخابية أمام المجلس الدستوري، وواقع وآفاق السلطة القضائية في لبنان، و»محامون للألفية الثالثة» والتحديات التي تواجه السلطة القضائية المستقلة في لبنان.
وكان لا بد أن يهتم، وهو الشوفي المستنير، بسجل الأحكام المذهبية الذي ألّفه سميّه القاضي سليمان تقي الدين، وحقق في وثائق تاريخ الشوف، وإيضاحات عن الديوان العرفي في عاليه، وعن الأسر في جبل الشوف.
إلى أين يذهب المثقف المستنير؟!
إلى اليسار حكماً.. ولكن أي يسار وقد ضربت الحرب الأهلية اليسار في لبنان بالطائفية، مستفيدة من التداخل بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية التي كان اليسار عمودها الفقري.. قبل أن يستشهد القائد كمال جنبلاط.
ولقد خاض سليمان تقي الدين معارك سياسية وفكرية ومواجهات صعبة، عبر منظمة العمل (الشيوعي)، من خلال الكتابة والدعوة، عبر منبر اتحاد الكتاب. نظم وحاضر وثقف. لم ييأس ولم يتوقف عن النضال، مواجهاً السقوط الذريع للأحزاب الوطنية والتقدمية، وسيادة المناخات الطائفية والمذهبية، لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 ورحيل المقاومة الفلسطينية من لبنان.
كتب وحاضر واقتحم مجالات كانت مغلقة، قاوم سيادة المنطق الطائفي والمذهبي. قاتل ضد «الكانتونات». ضد التهجير. ضد التفريق القسري بين الأخ وأخيه نتيجة الفرز الطائفي الذي أخذ يتمدد ليشمل مختلف المناطق، حيث انزوت كل طائفة في منطقة مشكّلة جيشها، بديلاً من الجيش الوطني، مستولدة مدناً بديلة من المدن التي نهشها التهجير الطائفي والمذهبي. قاتل ضد التعصب بأشكاله كافة وضد المتعصبين لأية طائفة انتموا. لكن الموجة كانت أعلى من قدرة القلة من أمثاله القابضين على جمر علمانيتهم، بما هي الوطنية والعروبة.
وقاوم أساساً اليأس: اليأس من الذات، اليأس من الشعب، لكنه اصطدم بجدران لا تخرق، ولم يستسلم ولم يرتد إلى طائفته، ولم يهادن الطائفيين، وظل يعمل ويكتب ويدعو، بالفكر والوعي والحقائق الأصلية، والمصلحة الوطنية، والحرص على حماية المستقبل. ظل متمسكاً بأحلامه التي وعى عليها قريبة من التحقق، حين كانت أعلام الحركة الوطنية ترفرف، في مختلف جنبات البلاد، وحين كان المناضلون يملأون الساحة هتافاً بضرورة التغيير، ولو بإسقاط النظام طالما استحال تغييره.
.. وعاد سليمان تقي الدين إلى «السفير» كاتباً لافتتاحياتها.
كان يكتب مرتين في الأسبوع متناولاً شؤون الوطن والأمة. كتب في النظام الطائفي الذي كان امتيازاً لبنانياً فكاد يتحول إلى «النموذج» الذي تقلده سائر الأنظمة في المشرق، خصوصاً، حتى بات الشعار الطائفي ـ معلناً أو مضمراً ـ أوضح من أن تغطيه الخطب القومية والاحتفالات الكرنفالية التي تتحدث عن وحدة الأمة، وعن تحرير فلسطين باعتباره الهدف الأساس أو المعبر الأساس إلى توحيد الأمة.
لم يتعب سليمان تقي الدين ولم يملّ من نقد النظام الذي كان لبنانياً فصار نموذجاً عربياً.
بعد أسابيع قليلة من عودته شنت إسرائيل حربها الجديدة على لبنان (تموز ـ آب 2006).. وكان على سليمان تقي الدين أن يخوض، من موقعه، المواجهة المشرفة لهذه الحرب، وصمود الشعب، لا سيما في الجنوب وفي الضاحية الجنوبية لبيروت وبعض البقاع، والتعاطف العام الذي أظهره «إخوتهم في الوطن» في المناطق الأخرى، في حين قدم مجاهدو المقاومة نموذجاً فذاً في المواجهات جعلت تقدم العدو مكلفاً جداً في بعضها ومستحيلاً في بعضها الآخر.. وكان أن تحقق النصر مؤزراً، واضطر العدو إلى الانسحاب، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ المواجهة مع العدو الشرس الذي كان يتصرف في الحروب ضد الدول العربية وكأن جيشه لا يقهر، وكأن أطول حروبه لن تتجاوز مدتها الأسبوع ثم يكون الاحتفال بالنصر الأكيد.
وعلى امتداد تسع سنوات، حتى اليوم، ظل سليمان تقي الدين يطل من افتتاحية «السفير» على قرائه، مرتين في الأسبوع، الثلاثاء والسبت.
بل إنه واصل الكتابة حين دهمه المرض. كان يعتبر استمراره في الكتابة مواجهة لعلها الأشرس بين المواجهات التي خاضها ضد الانحراف الفكري والتحجر الحزبي وسيادة المناخ الطائفي أو المذهبي.
لم تلتبس الأمور على سليمان تقي الدين في أي يوم: الطائفية والمذهبية، القمع والتحجر الفكري، انفضاض المناضلين يأساً أو سقوطاً في غواية اللعبة السياسية والمنافع والمكاسب الشخصية التي أتاحها النظام عبر أركانه الذين احتكروا العمل السياسي بتبوئهم مواقع القيادة في الدولة، وتطئيف الوظيفة العامة أكثر مما كانت في أي يوم، ليستطيعوا التحكم بمن يدخل إلى نعيمها تائباً منصرفاً عن العمل السياسي، مسلماً بوحدانية القائد أو القيادة المرجعية للطائفة.
ولقد واجه سليمان تقي الدين مجموعة من المآزق، وعلى مختلف المستويات.. فالطائفية قد التهمت الأحزاب، وصار لكل طائفة مرجعية واحدة (أو اثنتان متكاملتان في أحسن الأحوال)... وصارت المناصب والمواقع حكراً على من تزكيهم هذه المرجعيات.
قاوم اليأس وظل يكتب ويحاضر ويؤلف الكتب ويشارك في الندوات مقدماً دراسات مميزة... لكن السور استمر يرتفع حتى كاد يضيق عليه في مجالات نشاطه.
ولعل اليأس هو مصدر المرض، فالمناخ السياسي في لبنان صار ولادة للقهر والإحساس بالعجز.
.. وظل يكتب ويكتب، في منازلة غير متكافئة مع المرض الذي هدّ طاقته، مفترضاً أن مقاومته هنا هي امتداد لمقاومته اليأس من الوطن ومن العمل الوطني ومن الدعوة إلى النضال ضد الطائفية والمذهبية التي احتكر أقطابها الدولة والهيمنة بالنفوذ على المصالح بإخضاع أصحابها لقدرتهم على إيذائها أو تنميتها. صارت التبعية للزعامات التي باتت هي القيادات السياسية والمرجعيات في توزيع المنافع والتحكّم بأصحاب المصالح، على حساب أهل الكفاءة والخبرة.
وظل سليمان تقي الدين مناضلاً، كاتباً ومحاضراً ومثقفاً لم يضعف ولم يستسلم ولم يتنازل عن إيمانه بمبادئه.
ولقد تبدّت صلابته في مقاومته الداء الذي أصابه، فأنهكه وفرض عليه التوقف عن الكتابة ولو إلى حين... لكأنه هنا يتابع مقاومته للنظام الفاسد المفسد، الذي يعتبر الوطنية كما العروبة وأسباب التقدم أخطر أعدائه، فيكافحها بضراوة لا تعرف الحدود.
ولسوف يعود قلم سليمان تقي الدين إلى الصفحة الأولى في «السفير» مضيفاً إليها نصاعة الفكر مع جزالة الأسلوب، من دون أن ينصّب نفسه واعظاً أو مبشراً بالجنة.
سليمان تقي الدين نموذج لمناضل من بلدي شرَّف قلمه بحماية كرامة الإنسان ومواجهة المحاولات المتكررة لإلحاق الهزيمة به.
سليمان تقي الدين علامة مضيئة في حياتنا الفكرية والسـياسية... ونحـن على ثقـة أنه عائد إلينا ليكمل رسالته.