لبنان على فراش الموت يحتضر، الأبناء فى الداخل، الجيران فى المنطقة، والكبار فى العالم، يريدون حصتهم من الإرث التاريخى!
لبنان كما نعرفه عقب صيغة 1943 انتهى، ولبنان ما بعد تركيبة الطائف لم يعد له وجود، ولبنان السورى مات مع دفن الحريرى، ولبنان الإيرانى الآن ينازع للبقاء حياً.
عاش لبنان، عاصمته الجغرافية بيروت، ولكن عاصمته السياسية الفعلية هى عاصمة أخرى.
فى زمن كانت عاصمة لبنان باريس، وفى زمن عبدالناصر كانت القاهرة، وفى زمن آخر كانت مجموعة حلف بغداد، وزمن رابع كانت سوريا حافظ الأسد، تخللها فترات محدودة لأدوار عراقية (صدام)، وليبية (القذافى).
بعد الحرب الأهلية كانت للبنان عاصمتان سياسيتان فى دمشق وأخرى فى الرياض.
وبعد الفراغ السياسى أصبحت طهران هى العاصمة الأكثر تأثيراً، وأصبحت منطقة ضاحية الجنوبية هى الأكثر تأثيراً، وأصبح حزب الله يحكم فى القرار السياسى من النبطية وصور مرجعيون حتى ساحة النجمية حيث البرلمان اللبنانى.
«بيزنس السياسة» أثبت أنه يأتى بمداخيل لطبقة الفساد السياسى فى لبنان أكثر من بيزنس السياحة.
وحينما بدأت القوى الإقليمية آخر خمس سنوات تتوقف أو تتأخر فى دفعات المال السياسى بقى اللاعب الإيرانى هو الممول الأساسى للقوى السياسية فى لبنان، من مختلف الطوائف وعلى كافة المستويات.
أدت العقوبات التى وضعها دونالد ترامب على إيران، وانخفاض سعر النفط إلى ضعف التمويل الإيرانى.
والمتابع لعمليات الفساد الحكومى فى لبنان سوف يلاحظ الارتباط الشديد بين خط انخفاض المال السياسى وتحديداً من إيران والسعودية مع زيادة لجوء النخبة السياسية إلى الانغماس فى عمليات الاستفادة والاستيلاء على المال العام (اتصالات - كهرباء - مازوت وبنزين - استيلاء على أراض - محاجر - عمليات تهريب - سمسرة مقابل منح تراخيص - إتاوات مالية على المصارف الخاصة - زراعة وتجارة مخدرات - بيع سلاح غير شرعى - فرض شركات بقوة السلطة على مشروعات عقارية).
توقف المال الخليجى مع وصول المال الإيرانى إلى أدنى مستوياته، وتجميد المساعدات الدولية، «جفف منابع المال السياسى»، وجعل «المال العام» خلال السنوات الخمس الماضية هو الفريسة الأساسية والمصدر الأكبر لمحاصصة فساد النخبة السياسية.
تراكم الدين العام، بمعنى أن المصارف تقرض مصرف لبنان لصالح الحكومة، حتى يتم توزيع حصصها بعمليات فساد بين النخبة السياسية.
من هنا تصبح مطالبة الثوار منذ أكتوبر الماضى بحكومة تكنوقراط يتميزون بالنزاهة هى أمر موجع لجيوب النخبة السياسية وهو أمر دونه الموت!!
أدركت عواصم العالم الأساسية، وضباط استخبارات السفارات المعنية بالشأن اللبنانى فى بيروت أن المال العام تم نهبه ولن يعود، وأن الرهان على أى لاعب محلى لبنانى تقليدى قد انتهى، وأن البلاد تتجه نحو الانهيار، والنظام نحو التصدع والسقوط، والشعب نحو الجوع المؤدى إلى الفوضى والتمرد والانفلات.
إذن لبنان، كما عرفه العالم يتصدع، وفى طريقه نحو السقوط، هنا يصبح السؤال «من الذى سوف يستفيد من أنقاضه، ومن سيسعى للاستفادة من «موقع هذا العقار الآيل للسقوط، وما هو شكل البناء الجديد الذى يسعى البعض لبنائه».
اختلفت المشروعات، والمصالح، والتصورات لشكل لبنان ما بعد السقوط.
هنا لا بد من محاولة «رصد بديلة» لما يتم تحقيقه لهذا «البلد المبتلى بنخبة سياسية قررت أن تدمره وتبيع أنقاضه».
يمكن إجمال أصحاب المشاريع الجديدة لصناعة لبنان ما بعد سقوط صيغة الطائف على النحو التالى:
1- المشروع الروسى: وهذا هو أكثر هذه المشروعات جدية وشراسة!
كان الاتحاد السوفيتى من أولى الدول التى اعترفت باستقلال لبنان عام 1941.
والتدخل العسكرى الروسى فى لبنان ليس بجديد، ففى العام 1773 عند نهاية الحرب الروسية - التركية تم إنزال قوات بحرية روسية لحماية المسيحيين الأرثوذكس فى لبنان.
دور سلاح المهندسين الروسى والدولة الروسية فى مساعدة لبنان فى التنمية عقب حرب 2006 مستمر لم ينقطع، وأهم ملفات انشغال الروس منذ الحرب الأهلية السورية هو عمل دراسات حول النازحين السوريين وبحث تكاليف إعادتهم بهدف الحصول على الدعم الدولى لمشروع إعادة إسكان 2 مليون لاجئ سورى فى لبنان!
تدرك روسيا أن لبنان، جغرافياً، هو الشريان البرى لسوريا وبوابته التجارية، وساحله المتشاطئ.
وتدرك روسيا أنه لا يحكم حكم دمشق، إلا من خلال نظام لديه طاعة سياسية كاملة فى بيروت.
وتدرك روسيا أن السعى للمياه الدافئة فى المتوسط يكتمل من سوريا إلى لبنان، وأن حصص سوريا من النفط والغاز الواعدة تكتمل بوجود 15 مربعاً للتنقيب قبالة الساحل اللبنانى.
وتدرك روسيا أن السعى الدولى لإعادة التوطين للنازحين السوريين فى لبنان، وإعادة إعمار سوريا هو «مقاولة عظمى» يجب أن تحصل فيها روسيا على نصيب الأسد!
وإذا كانت روسيا تقرأ حالة الفراغ الإقليمى جيداً فهى راغبة أن تملأه مهما كان الثمن.
المشروع الثانى: الإيرانى: تدرك إيران حصار واشنطن الاقتصادى لها، وضربات إسرائيل الموجعة، والسعى الروسى إلى رحيلها عن سوريا، وهو «أمر واقع لا يمكن منعه ولكن يمكن تأجيله لبعض الوقت»، لذلك تعتمد على حليفها حزب الله فى لبنان، والحشد الشيعى فى العراق، والحوثى فى اليمن، وحماس فى غزة لتقليل الخسائر، ولاستخدامهم جميعاً كأوراق ضغط ومقايضة حينما يتم التفاوض النهائى مع إدارة أمريكية، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية.
لذلك التخلى عن مراكز القوة فى لبنان عقب خسارة سوريا، هو أمر دونه الموت بالنسبة لصاحب القرار الإيرانى.
وكما هو حادث من صراع مكتوم بين روسيا وإيران فى سوريا على إدارة نظام الأسد، فإن ذات السيناريو قابل للتكرار فى لبنان من جانب الإيرانى والروسى، اللذين يعتقد كل منهما أنه صاحب مصلحة منطقية فيها.
الروسى يؤمن بأن من يدير سوريا، عليه -بالتبعية- أن يدير لبنان.
والإيرانى، الذى يشعر بأنه مرغم روسياً وإسرائيلياً وأمريكياً على ترك موقعه الاستراتيجى فى سوريا، فإنه، قد يرضى -على الأقل- بعدم التضحية بوجوده بقوة فى لبنان عبر حليفه القوى حزب الله.
المشروع الثالث هو: المشروع الفرنسى، ترى فرنسا نفسها «الأم الرؤوم» الراعية للبنان «الفرانكفونى» ومنذ العام 1920 طلبت عصبة الأمم أن تدار لبنان من قبل فرنسا عقب إعلان وفاة الإمبراطورية العثمانية وتقسيم ولاياتها بين دول أوروبا.
ومن نوفمبر 1929 إلى نوفمبر 1931 تم تعيين الضابط الفرنسى شارل ديجول الضابط بهيئة الأركان العامة لقوات «الشام» فى بيروت.
كانت فرنسا هى مهندس صيغة المحاصصة الطائفية فى لبنان، بحيث يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سنياً، ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً.
ومنذ ذلك التاريخ، فإن الاهتمام الفرنسى بلبنان لم ينقطع، والقلق من اختلال صيغة «المثالثة الطائفية» هو هاجس رئيس الإليزيه.
ووصل حد الاهتمام بالشأن اللبنانى فرنسياً فى عهد «جاك شيراك - رفيق الحريرى»، أن اعتبر -وقتها- شيراك أن اغتيال الحريرى هو رصاصة أطلقت فى صدره شخصياً وتفجير للعلاقة الخاصة بين باريس وبيروت.
زيارة وزير الخارجية الفرنسى لودريان منذ أيام للبنان تعكس تزايد منسوب القلق الفرنسى مما هو آت فى لبنان.
ظهر ذلك فى تحذيرات الرجل وعدم رضائه عن أداء الحكومة وتلميحاته بفقدانها للاستقلال الوطنى، وظهر ذلك فى رد الفعل الغاضب لتغريدة رئيس الوزراء حسان دياب الذى اعتبر «أن زيارة لودريان لم تحمل معها أى جديد ولديه نقص فى المعلومات وربطه للإصلاحات الحكومية بمساعدة لبنان وضرورة المرور عبر صندوق النقد يؤكد أن القرار الدولى هو عدم مساعدة لبنان».
صيغة فرنسا تقوم على رئيس جمهورية مسيحى مارونى غير موال لإيران، ورئيس وزراء سنى صديق للمصالح الفرنسية، ورئيس برلمان متمكن من تمرير التشريعات.
وتقوم الصيغة الفرنسية على الالتزام الكامل بطلبات الإصلاح التى تقدم بها صندوق النقد الدولى، حتى تكون مقدمة لدخول استثمارات الدول المانحة للبنان من خلال اتفاق «سيدر» البالغة قيمته 11 مليار دولار برعاية فرنسية كاملة.
المشروع الرابع: هو المشروع السورى الأسدى، الذى يرى أن لبنان هى محطة نفوذه الأخيرة وهو يعانى من معادلة مخيفة، وهى بدء تخلى الروسى عنه، وعدم قدرة الإيرانى على تمويله، وحصار الأمريكى له، واستباحة التركى لأراضيه، واستحالة تكاليف الحياة على مواطنيه بعد الانخفاض التاريخى للعملة الوطنية مقابل الدولار.
يعيش السورى بلبنان كغرفة إنعاش اقتصادية أجرت له، فهو يحصل على المازوت المدعوم حكومياً من لبنان ويتم تهريبه لسوريا.
ويرى السورى أن الدولار اللبنانى هو الصراف الوحيد المتاح لاحتياجات الحياة والتجارة فى سوريا.
ويرى السورى أن حزب الله بقواته ومخازن تسليحه وصواريخه هو الاحتياطى الأمنى والاستراتيجى له.
من هنا فإن معركة التخلى عن لبنان ستكون معركة حياة أو موت.
المشروع الآخر «صدق أو لا تصدق» هو المشروع التركى لبسط النفوذ واستكمال السيطرة على شرق المتوسط من منظور إعادة الخلافة العثمانية. إنها عودة «الفرع إلى الأصل» كما يراها فكر العثمانية الجديدة، إنها عودة لبنان لحضن الخلافة من خلال إعادة التنظيم الإدارى التركى للولايات التى بدأت فى عهد السلطان عبدالمجيد الأول الذى قام بمجازر تاريخية عام 1860 فى لبنان والشام.
يبدأ التصور الاستراتيجى التركى من قبرص التركية، إلى سوريا، إلى لبنان، إلى ليبيا.
الهدف من ذلك التصور هو وجود منافذ استراتيجية على شرق المتوسط للتحكم البحرى فى المنطقة، بحيث تكون هناك سيطرة حاكمة تفرض شروطها على حصص الغاز والنفط، وهما موردان تخلو منهما الأراضى والبحار التركية.
جبران باسيل، وهو من أركان النظام، حذر منذ 3 أيام من تمدد تركى سياسى مالى وأمنى بعلم من أجهزة لبنانية تتعاون معه وتسهل له: ولكن لماذا لبنان؟ ولماذا الآن؟
الحنين الجارف فى أنقرة إلى إعادة لبنان لتصبح ما يطلق عليه بالتركية: «منصرف فليغى» بدأ منذ سنوات بخطة جهنمية مدروسة انتقت منهج «التمكين الإخوانى» فى مدينة طرابلس اللبنانية.
ملامح هذا التدخل اتخذت الأشكال التالية:
1- نشاط قوى للغاية لمنظمة «تيكا» التركية من خلال مشروعات إنسانية وتعليمية فى مناطق الشمال اللبنانى.
2- تقديم عشرة آلاف منحة تعليمية خلال 15 عاماً لأبناء هذه المناطق.
3 - تقديم مساعدات عينية ومادية لسكان المحافظات والبلديات فى تلك المناطق.
4- احتضان العديد من الشخصيات السلفية المتشددة القريبة لفكر الإخوان والقاعدة.
5- منح الجنسية التركية للآلاف من المواطنين اللبنانيين الذين ينتمون لأصول تركية فى مناطق عكار وبعض عشائر منطقة البقاع.
ويتردد أن المشروع هو الوصول إلى منح 50 ألف لبنانى من سكان تلك المناطق الجنسية التركية.
6- نشاط واسع لشركات الاستثمار التركية فى مجال الاستزراع فى تلك المناطق.
إبداء الجانب التركى الرغبة فى الاستثمار فى مجال التنقيب عن النفط والغاز وبناء المصافى فى السواحل اللبنانية.
وقد حذر وزير الداخلية اللبنانى من هذه التحركات فى منطقة الشمال دون تسمية تركيا.
وتحذر مصادر أمنية عربية أن لبنان هى الهدف الاستراتيجى المقبل لتحركات أردوغان، وأن موعد ذلك قد يكون فى مقتبل العام المقبل، عبر مناطق الشمال، بمعنى أن يكون الطريق إلى بيروت عبر مناطق الشمال.
المشروع الأخير وهو الأخطر هو المشروع الإسرائيلى، الذى لا يسعى إلى احتلال لبنان ولكن يسعى إلى «إخضاعها سياسياً، ويدرك أن هذا لن يتحقق إلا بتدمير البنية العسكرية لحزب الله اللبنانى».
وتقول بعض التسريبات عام 2006 منسوبة لإيهود باراك: إن البقاء العسكرى الإسرائيلى فى لبنان هو مصيدة لجيش الدفاع وهو لن يحقق لنا شيئاً، ولكن المهم أن نحقق هدفين أساسيين:
1- تدمير بنية حزب الله العسكرية.
2- ضمان نظام حكم معتدل فى لبنان.
وبناء على تصريح علنى لأفيخاى درعى المتحدث باسم االجيش الإسرائيلى «فإنه قد تقرر إرسال تعزيزات من قوات مشاة إلى القيادة الشمالية العسكرية».
ماذا يعنى ذلك كله؟ بمعنى ماذا تعنى مشروعات: التركى، والروسى، والإسرائيلى، والإيرانى، والفرنسى للبنان؟ وماذا يعنى ذلك فى ظل قانون قيصر الأمريكى، والتوقف عن الدعم العسكرى للجيش اللبنانى، وتوقف المساعدات والسياح من دول الخليج، وتجميد المصارف للأموال، وعدم اقتناع صندوق النقد بجدية الحكومة الحالية، وتجميد اتفاقية سيدر، وخروج فيروس الكورونا فى البلاد عن السيطرة، ووصول الليرة إلى الدولار ما فوق الثمانية آلاف، واستحالة الحياة للبنانيين بكل طبقاتهم، واستمرار الحكم فى إلقاء اللوم على المؤامرة الخارجية والإعلام الكاذب والكيد الخليجى، والمشروع الصهيونى!
ذلك كله يحدث وحكم المحكمة الخاصة باغتيال الشهيد رفيق الحريرى سوف يصدر يوم 7 آب أغسطس المقبل، بما يحتوى من معلومات تفجيرية ومؤلمة.