باختصار، وصل دونالد ترامب إلى الحكم فجأة وهو لا يحمل فى داخله سوى مشروعه القديم، وهو مشروع رجل الأعمال، المغامر، الشرس، العشوائى، الملاعب للخطر دائماً، المؤمن بأن كل شىء له ثمن، وكل رجل قابل للشراء، وكل امرأة تنتظر عرضاً منه لتمضية الليلة معه.
جاء «ترامب» إلى الحكم وهو يحمل أدوات رجل الأعمال غير الملتزم بالقانون، ليشغل وظيفة الرجل التنفيذى الأول لأكبر دولة فى العالم تتشدق بالتمسك بالقانون على أراضيها وعلى خارطة العالم.
إذا لم يكن ذلك هو التناقض المطلق، والتضارب الأعلى بين «الرغبة» و«القدرة»، وبين المواءمة بين الطبيعة البشرية من ناحية، ومتطلبات المنصب من ناحية أخرى، فما هو تعريف التناقض؟
يتفق كل من ستيف بانون، وبريبوس، وجارى كوهين، ومايك ماتفورت، وريك تيللرسون، وحتى جاريد كوشنر، زوج ابنة ترامب، على أن «الرجل عشوائى، متقلب، مزاجى، خارج عن السيطرة، يفعل ما يريد، وليس ما يجب أن يكون».
إنهم يتعاملون مع رئيس لا يهتم بالتقارير، ولا يأخذ بالبدائل المقترحة من مستشاريه، ولا يلتزم بالنصوص المكتوبة للخطب والتصريحات الرسمية.
إنهم يتعاملون مع رجل يحكم البيت الأبيض من أجل أن يعلن حرباً نووية من خلال تغريدة يطلقها على هاتفه الخاص وهو داخل غرفة حمامه الصباحى.
لكل هذه الصفات يشكل دونالد ترامب عبئاً ومشكلة.
ولكل هذه الأسباب أيضاً فعل أقطاب الحزب الجمهورى كل ما يمكنهم لدعم الرجل وإنجاحه، فهو «المطرقة» الحديدية الوحيدة القادرة على تحطيم تراث من إنجازات الحزب الديمقراطى المنافس: «8 سنوات مع كلينتون، و8 سنوات أخرى مع أوباما»، تحقق فيها كل ما يعارض مصالح اليمين الأمريكى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
كان لا بد من «لغم بشرى»، أو «بلدوزر» جامح يدمر اتفاقات «النافتا»، وحلف الأطلنطى، والتجارة مع الصين وكوريا الجنوبية واليابان.
كان لا بد من «لغم بشرى» يدمر سياسة العربدة الإيرانية والكورية الجنوبية وتوسع «القاعدة» و«داعش».
كان لا بد من «لغم بشرى» يحد من الصادرات الصينية واليابانية والكورية والأوروبية الرخيصة للأسواق الأمريكية، ويضع قيوداً وغرامات وتعريفات جمركية حمائية للصناعة الأمريكية، وينسف كل الاتفاقات الثنائية التى كانت تتيح لهم ذلك.
كان لا بد من «لغم بشرى» يراجع بقوة الوجود الأمريكى فى أفغانستان والعراق، والدعم السنوى الأمريكى للأمم المتحدة واليونيسكو والأونروا.
كان دونالد ترامب هو الرجل المناسب تماماً لهذه الوظيفة، فهو «الرجل الجامح» القادر على فعل أى شىء دون خوف أو خجل أو تراجع.
لذلك لم يكن صعباً أن يُصدر تشريعات الهجرة، وطلب تعديل قانون «أوباما كير» الصحى وتخفيض الضرائب عن الشركات الكبرى.
كانت أفغانستان، وما زالت، هى نقطة مستعصية على الفهم لدى «ترامب»، وطالما ناقشها مع الجنرالات كيلى، وماكماستر، وماتيس.
كان سؤاله الدائم: «بحق الجحيم، ماذا نفعل فى هذا البلد (يقصد أفغانستان)»؟
يحاول أصدقاء «ترامب» أن يعطوا تفسيراً نظرياً لسياساته العشوائية على أنها سياسة «حافة الهاوية» التى ابتكرها جون فوستر دالاس، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق، والتى تقوم على التصعيد اللانهائى حتى نقطة ذروة الخطر. وعندها، وعندها فقط، يصبح التفاوض هو الحل.
نجح ذلك مع الجميع، ويبقى أن نرى إذا كان سينجح مع «التاجر الإيرانى» الذى يبرع تماماً فى لعبة الصبر اللانهائى.
يدرك «ترامب» الآن أنه فى دائرة الخطر، بعدما شهد مايك ماتفورت أمام القضاء ضده، ويبدو أنه «عقد اتفاقاً ما مع المدعى العام يتعاون فيه مع جهات التحقيق مقابل تخفيف التهم الموجهة إليه».
ويدرك «ترامب» أن لجنة التحقيق الخاصة التى يديرها «موللر» وصلت إلى حقائق دامغة وخطيرة حول أرصدته الخاصة فى بنك دويتشه الألمانى، وحول حقيقة موقفه الضريبى، وحول علاقته المالية بروسيا، وفضائحه المالية، وتورط ابنه، ثم زوج ابنته، فى مخالفات مالية مع جهات أجنبية.
رغم ذلك يعتمد «ترامب» على خمسة عناصر قوية ليست بالسهلة.
1- النجاح المالى والاقتصادى المذهل الذى حققه فى الفترة القصيرة التى تولى فيها الحكم، بعدما تجاوز مؤشر «وول ستريت» 26 ألف نقطة، وهو رقم تاريخى، بعد سنوات من الهبوط والتأرجح فى المؤشرات.
وتدل المؤشرات أيضاً على ارتفاع معدل التنمية وزيادة فرص العمل لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات.
2- يعتمد ترامب أيضاً على الدعم الكامل وغير المشروط له من «الأيباك» وتيار اليهود الصهاينة فى أمريكا له ولنائبه «بنس»، بعدما كان أول رئيس أمريكى يجرؤ على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
3- إقبال التيار الشعبوى والتيار الدينى على دعمه لاستمراره فى سياسة منع المهاجرين ودعم كل ما يؤكد شعاره «أمريكا أولاً».
4- تشدده مع الشركاء الدوليين ونجاحه فى الحصول على تنازلات واضحة منهم.
5- مواجهته الشرسة، فى كافة المحافل، مع إنجازات الحزب الديمقراطى السابقة، وسعيه المستمر لتخريبها وضرب رموزها.
إذن، نحن أمام رئيس يسيطر عليه منطق: «كم ندفع فى هذا الهراء؟ وليس كم ينفعنا هذا الهراء من الناحية السياسية ولمصالحنا العليا».
«الكلفة المالية»، وليس «العائد السياسى»، هى المحرك الأول لسياسات «ترامب».
أنصار «ترامب» الذين غادروه أو غادرهم يؤمنون بأن الرجل أيامه باتت معدودة، وأنه إن لم يُعزل، فإنه لن يُكتب له الفوز فى الدورة الرئاسية المقبلة.
يبدو أن تيللرسون، الصديق القديم للدوحة وأنقرة، قد أوعز لحكام العاصمتين بهذه الرؤية التى جعلتهم يتعاملون مع ترامب مؤخراً بعدم جدية، على أساس أنه -من وجهة نظرهم- رئيس تصريف أعمال لا مستقبل له فى الحكم.
الإجابة الأمينة والموضوعية بخصوص مستقبل ترامب السياسى، بناء على كل ما جاء من مصادر ومعلومات وتحليلات كتاب «بوب وودورد»، أنه يلاعب الخطر بقوة، ولكن لا توجد إجابة نهائية عن هذا السؤال، لأن الصراع بين القوى التى صعّدت ترامب للحكم والتى استفادت مالياً وسياسياً بقوة من فترة حكمه، سوف تضطر للدخول فى صراع مع أجهزة أمنية وقوى سياسية فى النظام متحالفة مع تيارات شعبية من الحزب الديمقراطى لحسم معركة: «ترامب» أو «لا ترامب»!