بقلم ـ عبد الرحمن الراشد
استمراراً لمقالي عن استقراء الوضع الأفغاني بمستجداته، هنا نأتي على المشهد الكبير، وأفغانستان قطعة واحدة من اللغز أو المتاهة التي لا بدَّ أن نراها متكاملة حتى نفهمها. وهذا لا يعني أن علينا أن نفسرَ كل حدث بأنه نشاط دولي، أو من نتاج الصراعات العليا، فـ«طالبان» مكون محليّ قَبليّ دينيّ، ينتمي إلى الأغلبية البشتونية، وصولها للحكم يُقرأ ضمن ديناميكية الصراع الأفغاني.
ما المشهد الكبير وموقع أفغانستان في خريطة الصراع الدولي؟ عندما غزاها السوفيات نهاية 1979 كان ذلك في سنوات الحرب الباردة. عدّت الولايات المتحدة الغزو زحفاً على مناطق نفوذها، هدفه آبار النفط، وإيران التي للتوّ سقط حكم الشاه فيها. إلى اليوم، أفغانستان جزء من المفهوم العام للأمن الإقليمي وضمن التنافس الدولي. إنما اليوم ليس الأمس، آنذاك كان الأميركيون يعتمدون على نفط منطقة الشرق الأوسط. اليوم القليل جداً يستورَد منه، وبالتالي الحاجة إلى حماية مصادر الطاقة التي شكّلت حجر الزاوية للاستراتيجية الأميركية في المنطقة لم تعد موجودة إلا في إطار مواجهة الصين.
والصين هي اللاعب الرئيسي في المشهد هنا. وحتى ندرك معناه يكفي أن نحسب كم تستورد الصين من البترول، نحو نصف حاجتها يأتي من السعودية والعراق وعمان والإمارات والكويت، وإيران ستلعب دوراً منافساً في بيع نفوطها. لن تستطيع الصين أن تستمر قوة اقتصادية عالمية من دون هذا النفط، والنفط يتطلب منها أن تكون قوة سياسية وعسكرية لحماية ممراتها البرية والبحرية الدولية. نفس الدوافع البريطانية والأميركية في ثلاثينات القرن الماضي. إضافةً إلى أن أفغانستان أرض المعادن النادرة التي تحتاج إليها الصين في صناعاتها المتقدمة.
لماذا خرج الأميركيون وكيف سينشط الصينيون؟ في نظري، نحن في حالة تشكل المحاور الدولية الجديدة. فالصين اليوم أهم لباكستان التي كانت إلى الأمس حليفاً وحيداً للأميركيين. لنتذكر أنه في الحرب الباردة، ومنذ الخمسينات، وقفت الولايات المتحدة والغرب مع باكستان بعد استقلالها، ضد الهند التي اعتمدت على موسكو في السلاح والتحالفات السياسية. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة صارت تحولات في خريطة العلاقات الدولية، حيث حلت الهند محل باكستان في واشنطن. المعادلة: دلهي حليفة الأميركيين وإسلام آباد، و«طالبان» أفغانستان أقرب إلى بكين، وسنرى المزيد من هذه الانقسامات في المحاور.
هل الخروج الأميركي عن هزيمة؟ بشكل عام العجز عن البقاء هزيمة لكن الموضوع ليس بهذا التبسيط. نعم منذ عام 2001 خسرت أميركا 2443 جندياً هناك، لكن معظمهم قُتل في السنوات الأولى، وبعد عام 2014 إجمالي قتلاها 92 فقط، ولم تفقد سوى قتيل واحد في مواجهات السنوات الأربع الماضية، هذه ليست خسائر قوة مهزومة. وتضاءل عدد القوات إلى ثمانية آلاف في آخر رئاسة دونالد ترمب. السبب لخّصه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بالانسحاب لأنه لم تعد هناك مصالح للولايات المتحدة في أفغانستان.
لا أرى ما يراه الكثيرون من المستغربين أو الشامتين حول ما حدث في أفغانستان. حكم بلد بُعيد عشرين عاماً أبداً ليس بالزمن القصير، والخروج منه هو المآل الطبيعي. المستغرب ليس أن الولايات المتحدة رحلت بل أنها تأخرت وأطالت البقاء. فقد كان هدفها الأساسي، المعلن والخفي، طرد تنظيم «القاعدة» وتأديب حركة «طالبان» التي كانت تحكم حينها. أميركا حققت هدفيها في أقل من أربعة أسابيع، عندما استولت على العاصمة كابل في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2001 وفرّت قيادات «القاعدة» و«طالبان» باتجاه باكستان وإيران، وحرمت الجماعة من الحكم عقدين طويلين. اليوم قد تفاجئنا الأحداث المقبلة ونرى صداقة بين الأعداء القدامى كما رأينا بين فيتنام والأميركان رغم سنين العداوات والحرب الدامية، هذه دول براغماتية تستطيع التموضع والتأقلم، لا مكان للكبرياء في عالم السياسة.