العديد من الدراسات الضخمة، بحكم عدد الباحثين والتمويل والفترات، أجريت للإجابة عن سؤال: لماذا ينضم البعض إلى جماعات إرهابية؟ ولماذا يكونون مستعدين لأن يقتلوا آخرين لا يعرفونهم بوضع قنبلة فى مكان يجتمع فيه الآمنون. مثلاً هناك دراسة شهيرة قام بها «معهد السلام بالولايات المتحدة» بدءاً من عام 2010 عن حوالى 2٫032 شخصاً ممن انضموا للقاعدة، ووجدوا خمسة أسباب أساسية تجعل هؤلاء ينضمون إلى تنظيمات إرهابية. كان السبب الأول هو «أزمة الهوية». بعبارة أخرى أنهم كانوا لا يجدون إجابة مقنعة عن سؤال: «من أنا، ولماذا أنا هنا على هذه الأرض؟»
الأصل فى الأمور أن الدول الحديثة التى نشأت على أساس المواطنة، وليس على أساس الانتماء الدينى أو العرقى، هى المسئولة عن الإجابة عن سؤال الهوية، وهذه كانت مهارة الرئيس عبدالناصر مثلاً، رغماً عن تحفظاتى على الكثير من قراراته، فى أن ربط بوضوح بين المواطنة المصرية والهوية العربية. وكان دائماً ما يردد فى خطاباته عبارات من قبيل «الشعب العربى فى مصر» أو «الشعب العربى فى سوريا» فكانت الهوية العربية هى مفتاح الإجابة عن أسئلة كثيرة مرتبطة بالهوية، وهنا تراجعت الهويات الأخرى فى الخطاب السياسى العام عن الهوية العربية، ولكن مع نكسة 1967 وتراجع «القومية العربية» حدث انفجار فى الهويات الفرعية فى المنطقة العربية، فهناك من لجأ للدين كى يكون هو هويته، وهناك من لجأ إلى القبيلة أو العشيرة.
الدراسة التى أشرت إليها وجدت أن «أزمة الهوية» وغياب البوصلة الوطنية عن معظم الشباب الذين التحقوا بالقاعدة هى التى أدت إلى نموذج الباحثين عن الهوية «identity seeker». يقول Eric Shaw، «ابحث عن الإرهابيين المحتملين بين أولئك الذين فقدوا الإحساس بالقدرة على التكيف مع مجتمعاتهم وعانوا خللاً كبيراً فى تقديرهم لذاتهم بسبب شعورهم بالاغتراب عن مجتمعاتهم، فهجرتهم وقرروا أن يعاقبوها».
الخلاصة إذن، على الدولة أن تعلن عن هويتها، أن تخلق لهذه الهوية حاضنة فى نفوس مواطنيها، فعلت ذلك دول الغرب باستحضار فكرة أن الغرب هو حامى الحرية فى مواجهة أعدائها.
تعالوا نعمل اختباراً يوضح مدى نجاحنا فى تأصيل هويتنا الوطنية: لو سألنا ألف واحد مصرى السؤال التالى: «هى مصر بتحمى مين أو إيه ضد مين أو إيه؟ سنكتشف أنهم يستحضرون الهوية الدينية (أعداء الإسلام) أكثر من استحضارهم للهوية الوطنية (أعداء مصر)، ومع الأسف الهوية الدينية تصاغ عبر عشرات الجماعات والخطابات والمحطات الدينية التى فيها الاعتدال وفيها التطرف أيضاً.
السبب الثانى، الحاجة إلى الانتماء «need for belonging» يقول Randy Borum إن الإرهابى لا يبحث فقط عن «معنى للحياة» ولكن كذلك رغبة فى أن يكون جزءاً من جماعة أو تجمع بشرى يملأ له فراغه العقلى والوقتى، لهذا فإن الإرهابيين يعملون دائماً على أن يجذبوا إليهم من ينتمون إلى الفئات المهمشة فى المجتمع. نادراً ما تجد «إرهابياً» كان فى الأصل يعمل متطوعاً فى جمعية أهلية أو كان عضواً فى حزب له حضور حقيقى فى الشارع، لذا يعول مناهضو الإرهاب فى العالم على الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدنى كى تكون الحاضنة التى تفيد وتستفيد من طاقات الشباب المهولة.
قالها عمر بن الخطاب: «إن هذه الأيادى خلقت لتعمل، فإن لم تجد فى الطاعة عملاً، وجدت فى المعصية (الإرهاب) أعمالاً».
طيب نعمل إيه: دعم مؤسسات المجتمع المدنى بشدة سواء فى المدارس أو الجامعات أو النوادى أو مراكز الشباب أو المساجد أو الكنائس.
لنعلن أن مصر ستكون نظيفة خلال سنة، ونطلب من كل مؤسسة من هذه المؤسسات أن تكون مسئولة عن نظافة المائة متر المحيطة بها، ويبدأ مدير المدرسة وعميد الكلية ورئيس النادى ومدير مركز الشباب وشيخ الجامع وقس الكنيسة بنفسه، لنجعل لشبابنا مساحة للانطلاق فى سماء العمل الأهلى والوطنى بدلاً من أن يتحولوا إلى طاقة تدمير.
السبب الثالث: «تصحيح ما يظنونه ظلماً».
هذا كان ثالثاً أكثر سبب قال به المنتمون إلى القاعدة، وفقاً للدراسة المشار إليها، والظلم هنا بمعانيه الأربعة: الظلم الدولى ضد المسلمين (دعم إسرائيل)، الظلم الاقتصادى (تهميش فئات أفقر)، الظلم الاجتماعى (التفرقة ضد أقليات معينة)، الظلم السياسى (آيات الاعتقال والتعذيب ضد المنافسين السياسيين).
هنا يظن الشاب أن عليه أن «يرفض الظلم» وأن «ينتفض ضد الظالم» ويتحول إلى «رسول العدالة» فى مواجهة «شياطين الظلم»، ولذلك فإن مناخ التفاوت الحاد فى الثروات، وهذه ليست وحدها المشكلة، مع غياب فرص حقيقية للحراك الاجتماعى والاقتصادى إلا من خلال دائرة فاسدة أو آليات ظالمة تجعل الشباب يفقد الأمل.
بمعنى يجوز أن أكون فقيراً، ولكننى لو أعلم أن اجتهادى فى الدراسة سيجعلنى أترقى اجتماعياً بأن أحصل على وظيفة مناسبة دون واسطة أو محسوبية أو أن تكون خلفيتى الفقيرة قضت على فرصة فى الترقى، إذن: اجتهادى فى العلم والدراسة والعمل سيعصمنى من الانحراف إلى التطرف.
طيب نعمل إيه: كفاية واسطة ومحسوبية وتعيين الأقارب والمحاسيب، ولنجعل الكفاءة، والكفاءة وحدها، معيار التوظيف والترقى.
السبب الرابع، المرض النفسى. يقيناً هناك من الإرهابيين من يكون مختلاً نفسياً وعصبياً، ولكن الدراسة المشار إليها تشير إلى هؤلاء فقط بنسبة حوالى 5 بالمائة، هؤلاء يعانون اضطهاداً شديداً فى مراحل مبكرة من حياتهم، سواء فى أسر مفككة أو غياب للأسرة على الإطلاق، الدراسة تشير إلى أن معظم هؤلاء يأتون من الطبقتين الوسطى والعليا، والذين لا يعانون من أى من الأسباب السابقة، لكن مرضهم النفسى يدفعهم دفعاً لأن يمروا بثلاث مراحل: الشعور بالاغتراب عن المجتمع، التمرد عليه، ثم استخدام العنف تجاهه.
ولا غرابة فقد قيل إن «هتلر» أصبح عاشقاً للعنف لأن حياته الأسرية منذ أن كان طفلاً كانت مليئة بالاضطراب، لدرجة أن العبارة التالية أصبحت واسعة الاستخدام: «لو كانت أم هتلر سمحت له بأن يمص أصابعه، لما دمر العالم».
طيب نعمل إيه: هناك مسئولية تبدأ من الأسرة، وعليهم ألا يستخفوا بمشاكل أولادهم، وألا يجعلوا أولادهم حلبة للصراع بين الأب والأم حين وقت الخناق والخلاف؟ آه، وقبل ما أنسى، يخلفوا عدد قليل ولكن يحسنوا تربيتهم.
السبب الخامس الذى وجدته الدراسة هو «جو التطرف السائد فى المجتمع» بمعنى حين يكون معظم الحوارات السائدة فى المجتمع عن الخونة والتخوين والكفرة والكفار يعيش الشاب فى حالة من الرفض لهؤلاء «الخونة والكفار» وبمجرد أن تتاح له فرصة الحصول على سلاح أو قنبلة يعتقد أن واجبه أن يقوم بتفجير هؤلاء أو قتلهم.
طيب نعمل إيه: مراجعة الخطاب الدينى والخطاب الإعلامى والخطاب الثقافى ضرورة، البلد دى ماشية من غير دماغ، كل واحد بيعمل اللى بيطلع فى دماغه.
ما الكتابات الأساسية التى ينبغى أن يقرأها طلابنا فى المدارس والجامعات؟ ما الكتابات الأساسية التى ينبغى أن يقرأها إعلاميونا ودعاتنا؟ هل كتابات الإمام محمد عبده أم كتابات سيد قطب؟ هل كتابات الذكى النجيب محمود أم كتابات سيد القمنى؟ هل كتابات العقاد وطه حسين أم كتابات حسن البنا والشيخ الجلالى الذى يحرم التليفزيون والتليفون؟ أم نترك الأمر لكل واحد يختار اللى هو عايزه أو يناسبه وبعدين نشتكى إن الإرهابيين حوالينا.
إحنا بنركز على قتلهم أو منع السلاح عنهم، لكن القضية أننا لا بد أن نقفل حنفية وجودهم ونمنع مبررات عدائهم للمجتمع.
أطالب السيد الرئيس بتشكيل مجموعة «دماغ البلد» عشان يضعوا استراتيجية متكاملة لخطاب سياسى، دينى، اجتماعى، إعلامى، تعليمى، يوقف حنفية الإرهاب ويصنع الإنسان المصرى الذى نريد. لا مصر جديدة إلا بإنسان مصرى جديد.
هل من مجيب؟