رئيسة الوزراء الألمانية «ميركل» ستصل إلى استنتاج مؤداه: «المصريون شوية مجانين بيتخانقوا مع بعض، مفيش كتير أقدر أعمله، وخلينا بعيد أحسن».
المعطيات من وجهة نظرها ما يلى:
1- شعب على درجة عالية من الأمية السياسية والثقافية. ببساطة عمره ما شاف ديمقراطية عشان يعرف يتخلق بأخلاقها، وعمر ما حد من اللى بيحكموه أعطاه المثل الحقيقى والقدوة الصادقة فى تغليب القانون على المصالح الشخصية.
2- نخب سياسية على درجة عالية من قصر النظر والتخبط وسوء التقدير. ببساطة ناس بتخدّم على مصالحها الشخصية أو الفئوية أو الحزبية أكثر من اهتمامها بمصلحة البلد.
3- منطقة على درجة عالية من التوتر وعدم الاستقرار السياسى. ببساطة منطقة تقوم على أساس الصراع بين الأقليات والأغلبيات الدينية والعرقية والمذهبية فى حالة من حرب الجميع ضد الجميع وكأنهم يكررون ما حدث فى ألمانيا فى القرن السابع عشر.
لو أفكر بمنطق رئيسة وزراء ألمانيا فسأجد أن بدائلى تتلخص فى ما يلى:
البديل الأول: التدخل بشكل سافر على الهواء مباشرة فى اتجاه دون آخر، دفاعاً عن طرف دون آخر، مهاجمة طرف دون آخر. مخاطر هذا البديل أننى سأصبح طرفاً فى قضية لست متمكنة منها، وأعتقد أن الكثيرين من أهل مصر أنفسهم ليسوا على يقين بشأن أين هم ذاهبون، لأنهم هم أنفسهم متقلبو المزاج بين مؤيد ومعارض.
البديل الثانى: الكلام الصريح مع الرئيس السيسى فى الغرف المغلقة بشأن مخاوفى مما يحدث فى مصر وتأثيره على مستقبل البلاد، ولكن أظل محافظة على العلاقات الرسمية الودية مع رئيس مصر وأغلبية الشعب المصرى، أمام الكاميرات. فى النهاية هو رئيس منتخب، ويبدو من هيئته وطريقة كلامه أنه أفضل كثيراً من سابقه، يعنى ممكن أن يؤدى الضغط الودود على الصديق الجديد إلى نتائج أفضل من المواجهات المباشرة معه.
البديل الثالث: عدم التدخل على الإطلاق، والتعامل مع الملف السياسى المصرى الداخلى باعتباره ملفاً داخلياً صرفاً، ويكون معظم الكلام على التعاون الاقتصادى وعلى ظروف المنطقة. هذا البديل لن يكون مفضلاً لديها لأنها ستعود إلى مجلس وزرائها لتبلغهم بما دار فى الاجتماعات وهم يتوقعون منها موقفاً سياسياً ما، لا سيما فى ضوء الجلبة التى أحدثها رئيس البرلمان الألمانى بإعلانه أنه غير راغب فى مقابلة الرئيس السيسى.
أعتقد أن البديل الثانى سيكون الأقرب إلى الواقع. هذه السيدة لا تريد أن «تقع فى مستنقع مصر» الذى لا يبدو واضحاً فيه من العاقل ومن المجنون، من له رؤية ومن يرفع شعار «من خفّ عقله تعبت رجليه».
العقلية الألمانية منظمة وتفكر على مدى زمنى طويل، العقلية المصرية «معشوَأة» (يعنى عشوائية ومركبة فى نفس الوقت)، فالتخبط المصرى سيصيب الانضباط الألمانى بسكتة دماغية أكيدة.
مثلاً: هل فيه جماعة عاقلة فى الدنيا تطلّع بيان تدعم فيه تطبيق أحكام «القاتل» على كل هذه الأعداد من المصريين فى ما يطلق عليه اسم «بيان الأمة»، وتتوقع دعماً دولياً لها؟
الحقيقة، لا يحتاج الرئيس السيسى أكثر من أن يترجم هذه الفقرة من البيان الموصوف ببيان «علماء الأمة» الذى تبنّته جماعة الخوّان المسلمين، والذى جاء فيه أن «الحكام والقضاة والضباط والجنود والمفتين والإعلاميين والسياسيين، وكل من يثبت يقيناً اشتراكهم ولو بالتحريض فى انتهاك الأعراض وسفك الدماء البريئة وإزهاق الأرواح بغير حق، حكمهم فى الشرع أنهم قتلة، تسرى عليهم أحكام القاتل، ويجب القصاص منهم بضوابطها الشرعية».
هذا تحريض مباشر على رفع السلاح ضد كل هؤلاء المذكورين.
طيب «ميركل» هتدافع عنكم إزاى، لو كنتم مهتمين بأن تقف منكم موقف المساند؟
وهل فيه نظام عاقل يرتكب كل هذا الكم من المظالم التى توحد أعداءه ضده سواء بأحكام إعدام نعلم أنها فى النهاية لن تنفذ أو بالزج بأعداد مهولة من الشباب فى السجون بهذه الطريقة، ويتوقع بعد كل هذا الدعم من ميركل؟
السيدة ميركل ستدير الموضوع بمنطق براجماتى بحت لأنها لا ترى أمامها رؤية عقلانية للأمور لا عند «الحبة دول» ولا عند «الحبة دول». لا يوجد فى مصر أحد يفكر «استراتيجياً» أو حتى «تكتيكياً». إحنا بنفكر بطريقة «استراكيكية»، بطريقة محلية مرحلية محدودة. الكل يغلب عليه التفكير بمنطق: مش لاقى حل يحل محل الحل الحالى لحالتى، فحلها من عندك يا رب.
تانى: مش لاقى حل يحل محل الحل الحالى لحالتى، فحلها من عندك يا رب.
بالنسبة لها، ألمانيا بها عدد كبير من الأتراك والمنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين والمتأثرين بالدعاية السلبية الموجهة لمصر فى أعقاب 30 يونيو. وهؤلاء قد يتظاهرون لإعطاء الانطباع بأن النظام المصرى لا يحظى بالشرعية وعليها أن تقول كلمة فى العلن تغازلهم بها لأنها يمكن أن تحتاج أصواتهم فى انتخابات مقبلة. لكن «كلمة الغزل» دى لا ينبغى أن تكون تكلفتها عالية فتأخذها إلى قلب المستنقع المصرى.
بالنسبة لها، مصر دولة صامدة ولم تنهر مثلما حدث من انهيارات فى دول أخرى فى المنطقة، وهذا فى حد ذاته نقطة بداية يمكن البناء عليها لاحقاً.
بالنسبة لها، مصر الصامدة ستكون مفيدة فى إعادة تشكيل حدود المنطقة بعد أن ثبت أن الحدود الموروثة عن الاستعمار لن تصمد طويلاً فى كثير من الدول.
بالنسبة لها، وجود جماعة «الخوّان المسلمين» وإكسسواراتهم الإعلامية والدينية والسياسية كارت يمكن لها ولرفقائها فى الغرب استخدامه ضد مصر والمصريين وقت الحاجة، فوجودهم مفيد لها كأداة ضغط فى المستقبل.
بالنسبة لها، السيسى هو الرئيس المنتخب الذى فى عهده يحدث «نزع الأخونة» (DE-ikhawnization) عن مصر بعد ما فشلت عملية «تمصير الإخوان» (Egyptianization of Ikhwan). ومن خبرة ألمانيا السيئة فى «نزع النازية» (DE-nazification) بعد الحرب العالمية الثانية، فإن المسألة لن تمر على خير إلا إذا غيّر الإخوان الكثير من طريقة تفكيرهم وقبلوا بشروط جديدة يكونون فيها أحد اللاعبين وليسوا المهيمنيين على الحياة السياسية المصرية باعتبارهم «الجماعة الربانية».
بالنسبة لها، هناك فرص استثمارية جيدة فى مصر، ستعمل على الاستفادة منها.
قضيتى ليست زيارة الرئيس السيسى لألمانيا، ولكن الأهم هو أن نعرف: هل هناك رؤية متعددة الأبعاد ومتعددة المراحل ومتعددة السيناريوهات للإجابة على أربعة أسئلة:
أين نحن؟
إلى أين نريد أن نذهب؟
ما هو أفضل طريق؟
كيف نتأكد أننا على الطريق الصحيح إلى الجهة المحددة؟
هذه الأسئلة ليست أسئلة سياسية، وإنما هى أسئلة يجيب عنها الساسة ويقبلها الشعب فيجد أملاً ويتطلع لغد أفضل ويقبل أن يضحى من أجل هذا الأمل، وهنا يؤدى الأمل إلى العمل.
«ميركل» مش هتنفعنا كتير ولا هتضرنا كتير. إحنا اللى ممكن ننفع نفسنا، أو نضر نفسنا.
وغداً يوم جديد.