دين  علم  فلسفة  حضارة

دين + علم + فلسفة = حضارة

المغرب اليوم -

دين  علم  فلسفة  حضارة

معتز بالله عبد الفتاح

الخطاب الدينى يمكن أن يكون أداة للردة الحضارية إذا أساء القائمون عليه تقديره حق قدره، ويمكن أن يكون أداة بناء المجتمعات إذا كان جزءاً من بنية متكاملة تجتمع فيه مكونات الدين مع العلم مع الفلسفة.

للشيخ محمد الغزالى ملاحظة بارعة عن قول الحق سبحانه: «اقرأ»، كأول كلمة استقبلتها أذن الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) من آخر رسالات السماء. وملاحظة الشيخ هى أن أمر «اقرأ» ورد غير متعدٍّ لمفعول. فلم يقل الحق اقرأ ماذا، وإنما ركز على المنهج بأن نقرأ باسم ربنا الذى خلق، مع التذكير بكيف أن الله خلق الإنسان من علق وكيف أنه علّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم. واتخذ الشيخ من هذه الآيات دليلاً على جمع الأمر القرآنى بين الدين والعلم والفلسفة: اقرأ فى كتاب الله (القرآن)، أى: تدين وآمن، واقرأ فى كتاب الله (الكون)، أى: تعلم وتفكر.

والدلالة نفسها نستقيها من كتاب الأستاذ العقاد الشهير «التفكير فريضة إسلامية» مع أن الأصل فى الأمور أن التفكير خاصية إنسانية، لكن «العقاد» وجد أن بعض المسلمين يجدون حرجاً فى أن يطلقوا العنان لتفكيرهم وإبداعهم الشخصى، وهو ما ذهب إليه الذكى النجيب محمود حينما صدَّر كتابه «رؤية إسلامية» بفصل عنوانه «أنا المسجد وأنا الساجد»، أى أننا نحن المسلمين جُعلت لنا الأرض مسجداً؛ فالمعمل مسجد والعالم ساجد فيه وهو يعمل، والمدرسة مسجد والمدرس ساجد فيها وهو يدرس، والمشفى مسجد والطبيب ساجد فيه وهو يعالج مرضاه. فالمسلم مسجد وساجد فى آن معاً. هذا ما ينبغى أن يكون، وإن شئت فقل هذه هى القيم التى نمنا فى نورها، واستيقظ الآخرون فى ظلام غيابها، فتراجعنا وتقدموا. هذه كانت رسالة كل كُتّاب ومفكرى النهضة فى مصر طوال القرن العشرين، وقد حاولوا جاهدين أن يحيونا من موت جهلنا، لكنهم ماتوا جسداً وأمتناهم فكراً يوم أن ملأ الساحة من يستفيدون من تخلفنا ويغذونه مدعين أنهم يحاربونه من أجلنا.

دعونى أقُل: إن مجتمعاتنا تمر بمشاكل هيكلية، كالمبنى الذى تحتاج أساساته إلى إعادة تأهيل. القضية ليست فى دهان حجرة هنا أو تغيير عتبة سلم هناك. إن قوة خلطة المسلح التى نبنى بها الكبارى والأبنية الشاهقة لا تأتى من الرمل منفرداً أو من الأسمنت منفرداً أو من الحديد منفرداً بل من خلطة محكمة بموازين معينة وعناية خاصة أفردت لها العلوم وأتقنها البشر بالعلم والتجربة حتى استقرت خطوات إجرائية منتظمة عند أهل الاختصاص من مهندسين إنشائيين ومدنيين، بما يجعل مساحة الاجتهاد الشخصى فيها قليلة للغاية. والأمر ليس ببعيد عن كيفية حل الصراعات الاجتماعية والسياسية (أى: التعايش) فى المجتمعات المعاصرة، فهى مسائل انتهت علوم اجتماعية كثيرة من مناقشتها والوقوف على عواملها وكيفية تحقيقها. هل قرأتم هذه العبارة الأخيرة؟ لقد وردت فيها كلمة «علوم» ولكن من فى الدولة أو المجتمع يعبأ بالعلم والعلماء؟

ثم أين الثقافة العامة فى أمور الحياة من قصة ورواية وشعر، بل حتى مشاهدة الأفلام الجادة، مثل «قنديل أم هاشم»، التى فوجئت بأن البعض قد درسها فى الجامعة لكنهم ما فهموا منه ما ذكرته فى إحدى المقالات عن صراع العلم والخرافة فيها؟ وغيرها من الأفلام مثل «الزوجة الثانية» وما يصوره من إساءة استغلال الدين من قِبل البعض، وفيلم «ابن الحداد» لـ«يوسف وهبى»، الذى أعتبره درساً فى قيمة العمل واحترام الذات، وغيرها من الأفلام الجادة التى أعتبرها من أهم وسائل تكوين أى إنسان سوىِّ فى مجتمعنا. وإذا كنت من هواة الأفلام الأجنبية فشاهد فيلم «عقل جميل» الذى يحكى عن جون ناش، واحد من أعظم علماء الاقتصاد، وعن نضاله ضد مرضه النفسى حتى انتصر عليه وصولاً إلى جائزة نوبل.

لقد تراجع كل هذا وأصبحنا أمام غلبة للتدين الشكلى الذى يحرص بعض الدعاة والعلماء على أن ينبهونا ألا نقف عند حدود الشكل فيه، لكنهم حقيقة يغذون هذه النزعة الشكلية دون أن يدروا. أتدرون لماذا؟ لأن خلطة المسلح التى يصنعونها فيها الكثير من الرمل والقليل من الحديد والأسمنت، فيهوى البناء. فيها الكثير من الغيبيات الدينية والقليل من العلم والفلسفة.

الداعية لا بد أن يكون داعية دين (عقيدة وأخلاق بالأساس) وعلم (وهو ما لن يحصله إلا إذا قرأ فى العلم بقدر ما يقرأ فى الدين) وفلسفة (وهو ما لن يحصله إلا إذا اطلع على إسهامات المفكرين والفلاسفة من الشعوب والمجتمعات الأخرى). فالدين بلا فلسفة سيكون شكليات تهتم بتوافه القضايا وتنعزل عن قضايا المجتمع الحقيقية، والدين بلا علم سيكون غيبيات واتكالية على سنن الله الخارقة التى ما وعد الله بها أحداً إلا بعد أن يكد ويكدح، عملا بسنن الله الجارية. والفلسفة دون دين ستكون شطحات وخروجاً عن المألوف والمقبول، والفلسفة دون علم ستكون مثاليات نسمع عنها ولا نعرف كيف نصل إليها، والعلم دون فلسفة سيكون أداة للدمار؛ لأنه سيكون منزوع الأخلاق، والعلم دون دين سيقف متحدياً لقيم المجتمعات المتدينة فيرفضه العوام ولا يفيدون منه. إنها خلطة متوازنة متكاملة يلعب فيها كل مصدر من مصادر المعرفة الإنسانية دوره. كخلطة الخرسانة التى يشد بعضها بعضاً، فلا مفاضلة بينها وإنما تكامل. لكن التحدى الذى نواجهه أننا أكثر تقبلاً لمظاهر الدين دون عمقه وطاقته الهائلة.

وهذا ما وعاه كبراؤنا وعلّمونا إياه؛ لأنهم حاولوا أن يحيونا لكننا أمتناهم بتجاهلنا إياهم. فحين نظر ابن تيمية فى أحوال المسلمين فى منتصف القرن الثالث عشر الميلادى وجد أن حفظة القرآن وصحاح الحديث من الكثرة بما لا يمكن عده، ومع ذلك كان فى الأمة من الوهن ما لا يمكن إغفاله، مقارنة بما كان عليه المغول، فقال قولته الشهيرة: «إن برع غير المسلمين فى علم من العلوم أو فن من الفنون أو فرع من الفروع، ولم يكن فى المسلمين نظيره، فقد أثم المسلمون». وهو ما قرره الشيخ محمد الغزالى بقوله: «ما الذى يفيد الإسلام إذا طلّق المسلمون الدنيا وتزوجها غيرهم؟!».. وبينهما مئات الإشارات من علماء ومفكرين كثيرين وجدوا ألّا سبيل للنهضة إلا بأن تخلَّق بأخلاق النهضة. وأخلاق النهضة ترتبط بالعلم والتفلسف بقدر ما ترتبط بالدين، وذلك بأمر الدين ذاته، وإلا لماذا أمرنا الله أن نسير فى الأرض لننظر كيف بدأ الخلق، أو أمرنا أن نسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم؟

إن هذا المأزق الحضارى الذى تعيشه مجتمعاتنا العربية متعدد الجوانب والأسباب والمظاهر، لكن أخطر ما فيه أننا غير واعين به أو على الأقل نحن متعايشون معه؛ فالهندى أو الصينى أو الكورى الشمالى أو الجنوبى أو الإسرائيلى أو الإيرانى لم يقبل أن يحيا حياته عالة على مجتمعات العالم الأخرى فى المعرفة والتكنولوجيا، فطفقوا، وبسرعة، يخرجون من أطر الصناعات التقليدية التى اعتادوا عليها لعقود إلى آفاق أرحب يكونون فيها ليسوا فقط مستخدمين فوق العادة لما ينتجه الغرب من سلع وخدمات وإنما يكونون منافسين للغرب فى أكثر ما كان يتميز به الأخير. إن الخلل فى العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم جزء أصيل من تراجعنا فى مسارات الحضارة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

دين  علم  فلسفة  حضارة دين  علم  فلسفة  حضارة



GMT 21:28 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«هي لأ مش هي»!

GMT 21:25 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

الفعل السياسي الأكثر إثارة

GMT 21:22 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

سألوا الناخب.. فقال

GMT 21:20 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ديمقراطية على المحك!

GMT 21:18 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

عودة ترامب!

GMT 06:10 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الجزائري خارج الجزائر

GMT 06:07 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس الجديد... أي أميركا ننتظر؟

GMT 05:06 2024 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

نصيحة السيستاني الذهبية

نجوى كرم بإطلالات استثنائية وتنسيقات مبهرة في "Arabs Got Talent"

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:38 2024 الخميس ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ميلانيا ترامب تظهر بإطلالة بارزة ليلة فوز زوجها
المغرب اليوم - ميلانيا ترامب تظهر بإطلالة بارزة ليلة فوز زوجها

GMT 17:36 2012 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

مجموعة للعناية بالشعر وتقويته

GMT 12:24 2018 الأربعاء ,25 إبريل / نيسان

أولمبيك آسفي يخطط لضم 4 لاعبين في الميركاتو

GMT 17:23 2016 الثلاثاء ,12 إبريل / نيسان

مشوار المنتخب السعودي في تصفيات كأس العالم 2018

GMT 02:35 2018 الإثنين ,05 شباط / فبراير

عفاف شعيب سيدة شعبية في مسلسل "فوق السحاب"
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib