معتز بالله عبد الفتاح
أكاد أجزم أن مقولة آدم سميث عن «اليد الخفية» التى تحرك عجلة الاقتصاد لا تكاد تنطبق فى مجتمع فى الدنيا مثل مصر. وأعتقد أن رفيق «اليد الخفية» هو البروفيسور «فهلو» الذى يجعلنا نفتى فى أى حاجة وكل حاجة وبلا أى إحساس بالوجل أو الذنب.
أكبر مشكلة تواجه مصر الجديدة أن المقومات الأخلاقية والفكرية للنهضة ليست موجودة بالقدر الكافى، بغض النظر عمن يحكمها. وعلينا أن نصارح أنفسنا بعيوبنا على أمل أن نستطيع علاجها.
الذكى النجيب محمود، رحمة الله عليه، استخدم تشبيهاً جيداً لوصف علاقة المجتمعات المتخلفة بالعلم. عند هؤلاء يكون العلم مثل نقطة الزيت فى إناء الماء، تستطيع أن تميزها طافية على سطح الإناء لأن الزيت لا يختلط بالماء. أما الملح فحين يذوب فى الماء يغير خصائصه؛ فالعلم يرتقى بالمجتمع والمجتمع يحترم العلم. وعليه تعجب الفيلسوف العظيم من أن بعض المشتغلين بالعلم يرتدون معاطفهم البيضاء وهم فى معاملهم ويتصرفون بأدق تفاصيل المنهج العلمى المنضبط وهم يجرون تجاربهم؛ ولكن بعد أن تنتهى ساعات العمل يخلعون معاطفهم ويبدو أنهم يخلعون معها المنهج العلمى الذى كانوا يستخدمونه وكأن المنهج العلمى من لوازم «أكل العيش» مثل نقطة الزيت المتميزة على صفحة إناء الماء.
هل يمكن الزعم بأن بعضاً ممن يناقشون شئوننا العامة حاملو علم وليسوا بعلماء؟ ولا أتذكر تحديداً من قال هذه العبارة: «محاولة استخدام العمل لعلاج مشكلات مجتمع لا يعترف بالعلم هى محاولة غير علمية فى حد ذاتها». وهذا حق.
إذن السؤال: وكيف نعرف العالِم من غير العالم؟
أولا: العالم متخصص. العلم الحديث لا يصلح فيه من يكتب ويتحدث فى كل شىء وكأنه يعرف كل شىء. مثلاً أنا حصلت على ماجستير فى الاقتصاد أثناء إعدادى للدكتوراه فى العلوم السياسية لأننى لم أكن سعيداً بمستوى معرفتى فى هذا الحقل المعرفى، وما كان لى أن أجرؤ على كتابة كلمة فى هذا الحقل إلا بعد إجازة من نوع ما فى هذا المجال. ومع ذلك أنا آخر شخص مستعد أن يتحدث فى الاقتصاد إذا ما تحدث المتخصصون؛ إدراكاً منى بجهلى.
ثانياً: العالِم يدور فى علمه مع الدليل وليس الأيديولوجيا أو الأفكار المسبقة. العالم كالقاضى وليس كالمحامى الذى يجمع الأدلة التى تحمى موكله ويرفض أو يتجنب الأدلة التى قد تدينه.
ثالثاً: العالم متفاعل مع بيئته راغب فى الحوار والنقاش فى المجال العام.
هناك قضايا كثيرة فى مجتمعنا ولا أعرف هل يستشار فيها العلماء أم لا. مثلاً من هم القائمون على تحديد شكل النظام الانتخابى المقبل؟ هل يشارك أساتذة النظم السياسية المقارنة والقانونيون والدستوريون فى هذه المسألة أم هى فقط قضية حزبية إعلامية ضيقة؟
من الذى سيحدد مصير «ممر التنمية» الذى اقترحه العالم الفاضل د. فاروق الباز أو مشروع آخر؟ هل هناك استشارة للاقتصاديين فى هذه المسألة؟ وماذا عن المشروعات الأخرى الكثيرة التى بدأت ثم توقفت؟
مثال ثالث، قضية الزيادة السكانية التى كلما كتب فيها أحد المتخصصين خرج عليه الرافضون مقارنين مصر بالصين مع ملاحظة أننا لا نملك ما عندها من موارد طبيعية. وحتى الصين تبنت سياسات ضابطة للزيادة السكانية حتى تستطيع النهضة بدءاً من عام 1979. ولولا هذا، مع عوامل أخرى، لما أصبحت ثانى أكبر اقتصاد وأكبر دولة دائنة فى العالم.
أدعو أن نكوّن آراءنا بعد أن نقرأ للمتخصصين؛ هذا واجبنا. وليكتب هؤلاء المتخصصون؛ هذا واجبهم. ولنجعلها ثورة ضد الفهلوة، لو أمكن.