معتز بالله عبد الفتاح
بعد بضع سنوات، وبعد أن تصقلنا الخبرة نتيجة أن تثقلنا التجربة، سنكتشف أن أضعف الناس رأياً هم من يتمنون مواقف بسيطة لا ترى ما فى الأمور من عوج وتعريج ودقائق وتفاصيل. أتذكر حوارا دار بينى وبين أحد أساتذتى بشأن حكم قضائى شهير فى الولايات المتحدة خاص بتجريم الفصل بين البيض والسود فى المرافق العامة، وكان حكما شديد التفصيل لدرجة أزعجتنى، وحينما انتهيت منه كان علينا أن نقارنه بموقف الأقلية من أعضاء المحكمة العليا فى الولايات المتحدة الذين اعترضوا على حكم الأغلبية، وكان أيضا حكما شديد التفصيل لدرجة مزعجة.
وكان رد الرجل، وقد عمل قاضيا فترة من حياته: «عزيزى موتاز (أى: معتز بالأمريكانى)، نحن نصنع التاريخ حين نكتب أحكاما كهذه، فنريد أن نستوثق أننا نوضح ما الذى نعرفه بما لا يدع مجالا للشك (beyond doubt)، وما الذى اعتمدنا فيه على ترجيح الدليل (preponderance of evidence)، وما الذى تساورنا فيه الشكوك، وما الذى رفضناه. ثم نضع كل ما سبق فى سياق أولويات القيم التى نؤمن بها والتى ذكرها الدستور. وهذا هو ما يجعلنا مضطرين إلى مواقف مركبة فيها الكثير من الطرق المستقيمة والمتعرجة والعودة للخلف (U-Turns)». كان تعليق الرجل هذا والذى كتبه تعليقا على ورقة بحثية قدمتها له دليلا على أن الأمر أعقد من تصوراتى بشأنه حتى بدأت أطالع أحكام المحكمة الدستورية العليا بشأن بعض القضايا التى عرضت عليها وبالذات فى عهد الدكتور عوض المر.
هذه كانت المقدمة.. ما الموضوع؟
الموضوع أننا لم نزَل بعيدين عن المواقف المركبة فى حياتنا، فى حين أن حياتنا تزداد تركيبا وتعقيدا. هناك موقف بسيط يتبناه البعض: الموقف البسيط هو أن ما حدث فى 30 يونيو انقلاب ولا بد من عودة الشرعية وعودة الدكتور مرسى للحكم. وهو ما يقابله موقف بسيط آخر يقول: إن ما حدث ثورة ضد جماعة إرهابية فاشية اختطفت ثورة 25 يناير.
وفى تقديرى أن الموقفين يقومان على تبسيط مخل على نحو مبالغ فيه. أما الموقف الأكثر تركيبا، الذى أظنه أقرب إلى الحقيقة، من وجهة نظرى، فهو: لو يعتبر أحدنا ما حدث انقلابا، لكن عليه ألا ينسى أن من أوصلنا إليه هو الدكتور محمد مرسى ومن معه ممن وقعوا فى كل فخ، وتجاهلوا كل نصيحة، وضيعوا كل الفرص لستة أشهر على الأقل.
فى المقابل كذلك، لو يعتبر أحدنا ما حدث ثورة شعبية ساندها الجيش، فلا تنسَ أنها لا ينبغى أن تكون ثورة ضد مطالب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ومعها المطلب المنسى: الدولة الوطنية الديمقراطية.
فى حوار مع بعض الدبلوماسيين الغربيين كانوا يرددون وجهة نظرهم بأن ما حدث «انقلاب». فكان سؤالى لهم: ماذا لو كان الدكتور مرسى قرر أن يدخل فى مواجهة مع إسرائيل، ودخل الغرب معه فى مواجهة سياسية، فتعنت ثم حدثت مظاهرات 30 يونيو ثم خرج الجيش عليه؟ هل كان الغرب سيقول إنه انقلاب أم أنه كان سيرحب به ويقول إنها ثورة شعبية؟
رد أحد الدبلوماسيين الأجانب: لكن الدكتور مرسى وعدنا أنه سيحترم علاقات السلام وحسن الجوار مع إسرائيل، وقد فعل. قلت له: لكنه كذلك وعد الشعب المصرى بالكثير ولكنه لم يلتزم. وبما أنكم تحبون إسرائيل أكثر مما تحبون مصر، وبما أن المصريين يحبون مصر أكثر مما يحبون إسرائيل، فقد كانوا أكثر حرصا على وعوده التى قطعها أمام شعبه من تلك التى وعدكم بها بشأن إسرائيل. وقد كان بإمكانه لفترة طويلة أن يتراجع، لكنه لم يفعل.
قال أحدهم: لكن هذا لا يبرر الدماء التى سالت. قلت له: لا يوجد شىء يبرر الدماء التى سالت، لا بعد 30 يونيو ولا قبل 30 يونيو، لكن هناك ما يفسرها: فائض طاقة سياسية عند الشباب المتطلع لمستقبل أفضل يسىء القادة والزعماء الافتراضيون توجيهه.
إدانة الدم كموقف مبدئى أمر بسيط ومركب فى نفس الوقت، لكن إدانة الدم تقتضى بالضرورة اتخاذ القرار السليم بشأن إحقاق العدل وتطبيق العدالة.
ولم نزل نحلم بمواجهة خماسية: الجهل، الفقر، المرض، الظلم، الانقسام.