معتز بالله عبد الفتاح
مفهوم «التعامى الاختيارى» تعبير قانونى يعنى أنك «اخترت ألا تعلم»، وهو ترجمة لمصطلح willful blindness. وقد قصدنى البعض فى أن أحاول معرفة مصير بعض ذويهم أو أصدقائهم، لا سيما من الطلاب، الذين تم القبض عليهم فى مناسبات مختلفة. وهذا أمر اعتدته منذ أيام الثورة، ليس بحكم «الواسطة» ولكن بحكم أن هذا أصلا حق إنسانى وقانونى، ولكن كم من حقوق فى مصر لا يعرف أصحابها كيف يحصلون عليها. ولكن فى الفترة الأخيرة واضح أن مجتمعنا قرر أن يدخل فى حالة من التعامى الاختيارى تجاه الكثير من المقبوض عليهم الآن دون تحقيقات كافية أو توضيح لمصيرهم أو أماكن احتجازهم. ورغم التعاطف التقليدى عند المصريين مع المقبوض عليهم فى مواجهة الدولة التى يظن الكثيرون أنها بالضرورة ظالمة، لكن هذه المرة الأمر جد مختلف. هناك تعامٍ اختيارى جماعى يعيشه معظم المجتمع المصرى تجاه كل ما له علاقة بالإخوان. طبعا هناك استثناءات عند قطاع، لا أعرف أن أحدد نسبته ممن يتبنون خطاب المظلومية التاريخية الناتجة عن «رابعة اللى جوّه الناس» بعد أن تم فض «الناس اللى فى رابعة» بالطريقة التى رأيناها، وما ترتب عليها من إسالة دم مصرى، سواء من المدنيين أو المجندين. ولو كانت القيادات تعقل لما كان هؤلاء فى عداد المتوفين، لكننا نفر من قدر الله إلى قدر الله. وهذا المفهوم له تاريخ طويل من الاستخدام فى السياسة وفى العقل الجمعى للمجتمعات، أحيانا بشكل إيجابى وعادة بشكل سلبى. مثلا، كان هناك تاريخ طويل من التعامى الاختيارى الجماعى من قِبل كبار القساوسة فى الكنيسة الكاثوليكية ضد الادعاءات بوجود تحرشات جنسية شاذة من قبل بعض المنتسبين للكنيسة، لكن حين وصل الأمر إلى تسجيلات لا يمكن إنكارها أو التواطؤ بالصمت عليها، خرجت الكنيسة لتعترف وتعتذر. والتعامى الاختيارى يمكن أن يكون عملا إجراميا يعاقب عليه القانون حين يجر منفعة على طرف على حساب ضرر لطرف آخر مثل العقوبات التى دخلت القانون الأمريكى بعد الانتكاسة الاقتصادية فى عام 2008 ضد موظفى البنوك الذين يتجاهلون المعلومات السلبية عن طالبى القروض؛ لأن طلب القرض يعنى عمولة أكبر للموظف ولا يعنى عقوبة عليه إن أساء التقدير. وهو نفس ما نجده حين يتجاهل موظف الجمارك أن يتحقق بنفسه مما تحمله من حقائب حتى لا يزعج نفسه بإجراءات التفتيش والتحقيق وكتابة التقارير. حين يقرر المدرس ذو الدخل المنخفض أن يمنع طلابه من الغش فى الامتحان حتى لا يضع نفسه فى مواجهة مع طلابه أو حتى لا يخسرهم فى دروسهم الخصوصية. وأحيانا يضطر الساسة إلى اصطناع الحكمة وتبنى سياسات تقوم على تجاهل قضايا معينة؛ لأن علاجها يعنى مشاكل أكبر ربما المجتمع ليس مستعدا لها الآن. وأشهر مثال على هذه الحالة هو قضية حقوق المثليين جنسيا (أو الشواذ بلغة المحافظين) فى الغرب بما أفضى لتبنى سياسة «لن نسأل ولا تجب» (Do’t ask, don’t tell) الشهيرة فى الولايات المتحدة، التى تعنى أن أحدا لا ينبغى أن يسأل المجند الأمريكى عن ميوله الجنسية، ولو سُئل فلا يوجد ما يلزمه بأن يجيب. إذن هى ليست خاصية مصرية أو فردية، لكن ما الذى جعل المصريين يتبنون استراتيجية «التعامى الاختيارى الجماعى» تجاه ما يحدث مع الإخوان بعد 3 يوليو؟
أخذت سؤالى إلى عدد ممن أعرفهم وأثق فى تمثيلهم للمجتمع والدولة، فلم يكن هناك إنكار لوجود هذا التعامى الاختيارى الجماعى.
قيل لى من أحد رجال الدولة النافذين: «ما دام الإخوان المسلمون لا يراجعون أنفسهم ولا يتراجعون، إذن اللى يتعمل فيهم حلال. المشكلة عندهم وليست عندنا». لكن هناك كثيرين داخل الدولة والمجتمع يرون أنهم لن يتراجعوا أو يراجعوا أنفسهم؛ لأنهم «أصلا جماعات غير وطنية بل ومعادية لمصر والمصريين». وقال آخرون، أو هكذا كان لسان حالهم: «وهل جزاء التعامى السابق إلا التعامى الحالى؟»، وبقول آخر: «ما يحدث معهم هو عقاب مجتمعى على ما فعلوه فى المجتمع خلال العام الذى حكموا فيه مصر».
قال آخرون من أنصار المصالحة، الذين يتناقصون يوما بعد يوم: «هم لا يساعدون أنفسهم كى يساعدونا».
ويستمر الاستنزاف والاستئصال.